الثورة – حسين روماني:
امتلأت المكتبة الوطنية في دمشق بالكلمات والأصوات التي تنوّعت بين مقاصدها، جلست جميعها بذات الفضاء الثقافي في اليوم الثاني لملتقى الكتّاب السوري من تنظيم اتحاد الكتّاب العرب وبرعاية وزارة الثقافة، الذي امتاز بالموضوعات المختلفة والمتناوبة بين الشعر والنص الأدبي والمعلومة اللغوية، بحضور عدد من المثقفين والمهتمين من أهل الكلمة في مقدمتهم وزير الثقافة محمد ياسين صالح.
اللغة روح والجغرافيا جسد
بداية مشوقة كانت مع محاضرة عميقة المعنى في القراءة التاريخية لأسماء المدن والقرى السورية، حاضر بها الأستاذ الدكتور محمد بهجت القبيسي، والذي أخذ الحضور برحلة جميلة بين أرجاء الوطن فصعد بهم فوق الجبل ونزل بهم نحو السهل بين اللغات الآرامية والسريانية، وخلال مستهلّ حديثه تحدث عن القامشلي، إذ قال:
“جذر كلمة قمش، واللام والياء نسبة قد يقول البعض إن هذه النسبة تركية مثل قوتلي، وقمش جاءت من قرقميش والقر تعني القرية أو المقر، والقميش المجموع ومنها كلمة القماش فقد سمي قماشاً لأنه مجموعٍ بالخيطان، فقامشلي من قمش أرض الاجتماع، اللام والياء الكثير يظنها تركية المصدر لكنها عربية كعبارة كتابٌ لي التي تأتي للنسبة، وتابع عن حمص التي جاءت من معنى حرّك، ثم عين عرب التي نلفظها كما نلفظ باب شرقي بلغة فصيحة”.
القبيسي خصّ “الثورة” بالحديث عن مشاركته بالقول: ” المحاضرة كانت مدرسة جديدة في تعلم اللهجات العربيات القديمات وهي اللغات السامية، كالإيبلاوية والبابلية العمورية ثم الكنعانية، فالأوغاريتية مروراً بالآرامية، من خلال أسماء المدن والقرى تحوي كل أنواع هذه اللهجات من العموري لغاية الآرامي حتى العدناني، هناك سوابق ولواحق لغوية نستطيع من خلالها معرفة عمر المدينة، فالياء والتاء مثلاً من أقدم اللواحق، كغاريا وغاريت وأوغاريت”، وأضاف “اللغة مسبار وكشاف الشعوب والهوية، اللغة هي الروح والجغرافيا هي الجسد، وبنيت الوحدة بين الروح والجسد على قواعد عامة وكبيرة ليست صغيرة”.
القوافي مرساة السفينة
ارتوى الحضور بشعر كتبه الأستاد تمام طعمة قال فيه:
في سوريا الحب بحر لا حدود له
من موجه حاك جدي بردة الأمد
ماذا سأكتب عنها
ماذا سأكتب عنها حين ترعبني هذي الجهات التي تنسل من خللي
ماذا وكيف
وهل في العمر متسع لكي أعرض ما أعجبت من عقدي
وأمحي في روابيها
وأغرقها في نشوتي
وأصلي غير مفتقد
وكي أغني بمنفى الروح ذات هوى
من قاسيون أطل الآن يا بلدي.
فزادهم عطشاً نحو الأبيات التي صاغها شريكه في الفقرة الأستاذ محمد قاقا:
وكنت أعلم أن الحب معجزة
كانت تفسر في المعنى تماهيه
من شأنها الشك في تأويل لوعته
إذ كنت فاقده واليوم أعطيه
لا وقت يشعر كم آه أدخنها
فتفضح العين ما بالصمت أخفيه
ما زلت طفلاً
يرى في مص إصبعه
عند الفطام حياة
قد تعزيه.
أفلام الطفل تحت المجهر
أن تسمع صوت الأذان ولحنه في مشهد قتل أو شرّ، كان ذلك مضطرداً بين أفلام الكرتون التي توجهت منذ بداية التسعينيات نحو الأطفال، فما كان من الدكتور أحمد نتوف إلا أن تصدى لمشاهدة ومراقبة ودراسة الغزو الفكري في أدب الطفل المصوّر، وتحدث خلال نصف ساعة من الزمن عن هذه التجربة التي نالت منه الكثير من الوقت لكنها كانت مفيدة، فباربي الدمية الأجنبية الجميلة التي دخلت بيوت العالم واستغلّت ذلك حتى تغزوا العادات والتقاليد البالية البعيدة كل البعد عن الأخلاق العربية، واجهها بفلّة الدمية التي لبست الحشمة والفضيلة وتزينت بالأخلاق عبر حملة دعائية قام بتأليف كلمات أغانيها استطاعت أن تغلق الباب العربي في وجه باربي وما جاءت من أجله، معلومات متنوعة لذلك سألناه عن مشاركته بعد غياب طويل عن دمشق التي أحب في هذا الملتقى فأجاب: “مشاعر فرح لا توصف لأشياء كثيرة، أولها لأنني أتنفس الهواء الدمشقي، كنت في الغربة أغمض عيني حتى أرى دمشق أما اليوم فعيوني مفتوحة بين ذكرياتها، وثانيها وجودي بالمكتبة التي حضرت بين كتبها رسائل الماجستير والدكتوراه لألقي محاضرتي وألتقي بجمهور واسع جداً يدل على الاهتمام بالثقافة، خصوصاً أن الفكر جمعنا في موضوع حساس يناقش قضية مهمة من قضايانا وهي الطفل ونشأته، كل ما ينتجه الإعلام يجب أن يكون تحت المجهر وإذا كان ضاراً فمن الطبيعي أن نأخذ حذرنا منه”.
قصة وعبر.. الكاتب والسلطة
تناوب الأساتذة محمد الحفري، وأيمن الحسن، في نسج قصصهم الأدبية أمام الجمهور، “ليس غروراً” مشوار الطريق كان عنواناً لقصة جاء فيها: “إلى أين سأصعد، أبي يقول دائماً لا يوجد شجرة صعدت إلى السماء، ما دخل ذلك بالحكاية أنا غير طبيعية اليوم، لا يمكن لخيطان النوم ما زالت تسيطر على أجفاني، مررت على غرفة أمي الصراحة خفت أن توبخني، لا أعرف كيف أرد عليها، إلى أين يا سمر ولماذا ترتدي هذا الفستان القصير”.
في حين كانت ندوة الكاتب والسلطة الفقرة الأخيرة مع الدكتور أحمد محمد علي، والدكتور أحمد جاسم الحسين، وتبادلا الآراء والملاحظات حول علاقة السلطة بالكاتب عبر ثلاث محطات، أولها كيف أعيد إنتاج العلاقة بين المثقف والسلطة في مرحلة ما بعد الحداثة، وثانيها ما مدى إسهام الثقافة في صناعة المثقف السياسي.أما ثالثها كيف عبرت الرواية السورية التي كتبت أثناء الثورة على علاقة الكاتب بالسلطة، ليمسك الدكتور الحسين الحديث في نهاية المحاضرة عن دور المثقف السوري اليوم أمام السلطة والمجتمع، كالإطفائي الذي يريد أن يخمد ناراً وليس مشعلاً لها في القلوب، الكاتب لديه انتماء وعشائرية ومشاعر، لكن يجب أن يتعالى على الصغائر ويتجاوز مرحلة الجرح إلى مرحلة ما بعد العملية، وأن يكون عامل لم شمل للسوريين عبر التركيز على المشتركات الكثيرة بينهم، فالعناصر المؤلفة أكثر من المنفرة، ومطلوب منه أن ينادي دائماً بالحرية.
وختم بالقول: دور المثقف النصح والنقد والحب، والوقوف بجانب السلطة الجديدة للخير وفي الخير والدعوة إلى الخير، مشيراً إلى أن موضوع الخبز والسويداء لا يقبل النقاش، فقيمة ابن الثورة ترتفع عن النقاش في الخبز، هناك جرح يجب أن نتعالى عليه، وأن يكون الكاتب جامعاً للشمل بعد الشتات الطويل، ليس مطلوباً من الكاتب أن يكون أداة بيد السلطة، بل عليه أن يكون مطفئاً للنار التي تلتهم وطننا الغالي.