الثورة – رفاه الدروبي:
نحن في زمن سوري جديد.. كلّ ما حولنا يقول ذلك، زمن صنعته تضحيات لا مثيل لها من أجل الحرية والكرامة، لذا قال المؤرخ اللبناني فيليب حتي: “سوريا أكبر بلد صغير على الخريطة”.
إنه بلد صغير، لكنَّه كبير بشعبه، كون الزمن الجديد يطوي صفحات معتمة حاول النظام المخلوع تكريسها خلال ستة عقود.
مقدِّمة بدأها جورج صبرا في محاضرة حمل عنوانها: “الثقافة السورية بين الماضي والحاضر”، استهلَّ بها فعاليات اليوم الرابع في “ملتقى الكتَّاب السوريين” بالمكتبة الوطنية بدمشق.
النظام التسلطي
وفنَّد صبرا حال السوريين خلال حكم الأسدين بأنَّه نظام الدولة التسلطية الفئوية مَنْ فرض على الشعب قوة القهر، بعد عدة انقلابات دموية حوَّلت البلاد إلى جمهورية للخوف والصمت معاً، بسبب إرهاب السلطة للشعب وفق أشكال متعددة.
مرحلة كانت فيها السجون والزنزات والمعتقلات، والاغتيالات، وفرض شعارات الدولة والانصياع والطاعة للسلطة وإلغاء رموزها، وفرض ثقافة “القطيع” في المادة الثامنة من دستور ١٩٧٢، وتنصُّ على أنَّ “الحزب الحاكم هو القائد للدولة والمجتمع”، وتعليب الثقافة بالقيادة القومية، وحصر المصالح الخاصة بها، كما يتذكَّر السوريون واقع منظمات المجتمع المدني وما حلَّ بطبخة النقابات المهنية في ثمانينات القرن الماضي عندما حاولت التعبير بصوتها واستعيض عنها بشعارات: “بالروح بالدم، إلى الأبد”، وكانت هناك أبنية مراكز ثقافية ونشرات متعددة في المجال ذاته، إلا أن حرية التعبير غائبة، وكلنا يعلم مدى ارتباط الحرية والثقافة ببعضهما البعض، فكلاهما صنوان لا يفترقان.
تحرك المفكرين
كما تحدَّث عن اعتراض السياسيين السوريين حول أحداث منطقة القامشلي عام ٢٠٠٤، وضرورة استيعاب الخطر الداهم، لكن أثناء عرضها على الجهات المعنية كانت ردود الأفعال عنيفة ولم تسر وفق الحلول العقلانية.
كذلك عندما وقعت الثورة السورية واجهوها بكمِّ أفواه الثوار، وكانت أصواتهم تحمل مطالب مُحقَّة لنقلة نوعية، مستنداً “صبرا” إلى ثلاثة مرتكزات على أرض الواقع للمرحلة الانتقالية، تتمثَّل بالتعددية الحزبية المشرعنة، إذ كانت البرلمانات مصدرالارتقاء والتطور، وحرية الصحافة وسيادة القانون كحالتها في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، إضافة إلى تعزيز دور المرأة كونها البطل الأول في الثورة السورية.
حقيقة أكَّدها جميع الباحثين حول مشاركتها في عملية البناء والعمل على محاربة الفساد والقضاء العادل.
أما المرتكز الثاني فيتجسَّد بالمساءلة ولا أحد فوق القانون.. فيما يتمثل المرتكز الثالث بالمشاركة من دون الوقوع في المحاصصة، كما يحصل في لبنان، موضحاً أنَّ النظام البائد عمد إلى تعزيز العشائرية والمناطقية، وألغى ذكرالرموز الوطنية أمثال: “إلياس مرقص، ياسين الحاج، ممدوح عدوان، ميشيل كيلو، برهان غليون، سعد الله ونوس، نزار قباني، صادق جلال العظم”.
القصة والشعر
فاتحة الأمسية القصصية كانت من نصيب رئيس فرع حمص لاتحاد الكتَّاب العرب عبير النحاس، المُتألقة بحسِّها التراجيدي العالي، إذ سردت قصة من مجموعتها الأولى عن النضال الفلسطيني، مؤكدةً أنَّ فلسطين شكَّلت البداية لكثير من الكتَّاب السوريين، ثم تلت قصة أخرى بعنوان: “صداقة بطعم الشوكولا”.
وبيَّنت النحاس في تصريح خاص لصحيفة الثورة، أنَّ والدها كان كاتباً، ملأ مكتبة البيت بأفضل الإصدارات القيِّمة، وجعلها غرفة نومٍ لأبنائه، فما كان منهم إلا النهل من معين الكتب، لكن الوالد اعتقل وزجَّ في غياهب السجون ليبقى غيابه غصةً تحملها في قلبها، وبعد حصولها على شهادة معهد إعداد المدرسين تابعت طريقها في التعليم في ثانويات واسطة العقد، إلا أن شغف الكتابة لاحقها وجعلها تمسك اليراع لتخط القصص، ورغم أنَّ كتاباتها لم تطرق باب الحاكم الظالم إلا أنَّ أنفاس العسس لاحقتها حتى وصلت لأصغر أبنائها، فما كان منها إلا التوجه إلى خارج الوطن مع زوجها وأولادها، وأسست دار نشر في تركيا وصل عدد مطبوعاتها إلى ٤٠ كتاباً.
تلاها القاص غسان حورانية بقصته القصيرة “الكمامة الزرقاء” تحكي عن الأحكام القاسية المطلقة على الناس الضعفاء من دون فهم أو تروٍّ.
الفرات يروي الحكايات
ثم أنشد خريج كلية الصيدلة الشاعر سليمان خالد جيجان ثلاث قصائد.. الأولى بلا عنوان، والثانية “زهرة المنفى” على البحر البسيط، والثالثة على البحر الكامل بعنوان: “سيرة نهر عظيم”، تناول فيها نهر الفرات:
قِفْ بالفراتِ وسَلْ هناكَ الماءَ
عنْ صَوْتِ أُمٍّ تَرْقُبُ الأَبْنَاء
تَرْنُو لِضَوْءِ العائِدينَ وكُفُّها
حَمَلَتْ لَهُمْ نحوَ السَّماءِ دُعَاءَ
قِفْ، وَانْثُرِ الأَنْفَاسَ عِندَ ضِفَافِه
وَاكْتُبْ عَلَى أَنْقَاضِهَا الأَسْمَاءَ
أَسْمَاءَ مَنْ عَبَرُوا الحَيَاةَ كَأَنَّهُمْ
صَوْتٌ أَعَادَ لِعُمْرِنَا الأَصدَاءَ
سَلْ عَنْ وُجُوهٍ غَادَرَتْ أَسْرَارَهَا
وَغَفَتْ عَلَى كَتِفِ الفَنَاءِ مَسَاءَ
هَذَا الفُرَاتُ، وَرُوحُهُ فِي مَائِهِ
تَهَبُ الحَيَاةَ لِمَنْ أَرَادَ بَقَاءَ
نَهْرٌ يُغَنِّي فوقَ جُرحٍ نازِفٍ
وَصَدَاهُ يَنْزَعُ عَنْ دَمِي الأَعْبَاءَ
يَا سَيِّدَ الأَنْهَارِ هَذَا مَوْجُكَ الـ
مُتَجَدِّدُ الأَشْوَاقِ صَارَ رِدَاءَ
يَرْوِي مِنَ التَّارِيخِ أَلْفَ حِكَايَةٍ
وَيَسُوقُ لِلأَرْضِ الْيَبَابِ رَخَاء
اختُتمت فعاليات “ملتقى الكتَّاب السوريين” في أيامها الأربعة بمحاضرة للدكتور حسان الطيان تحت عنوان: “من رجالات دمشق”، ركَّز فيها على مفكِّرين وأدباء كبار ظلَّ بعضهم مبعدين عن أرض الوطن، ولاقوا وجه ربهم في بلاد الغربة، أمثال: الدكتور عصام العطار وزوجته، وأحمد راتب نفاخ وغيرهم، مؤكِّداً على أنَّ المغتربين السوريين أسَّسوا في الكويت أول اتحاد كتَّاب، وكان برئاسة الطيان نفسه.