الثورة – همسة زغيب:
طرح الناقد والكاتب غرز الدين جازي دراسة تحليلية معمقة وقراءة نقدية لقصيدة “مرآة الشوق” للشاعر الفلسطيني أحمد دخيل، استذكر اغتيال الموساد للشاعر الفلسطيني كمال ناصر بطلقة في فمه كدلالة على تدميره مرتين، مرّة كشخص، ومرّة ككلمة، في بيروت عام 1973 خلال عملية عسكرية، اليوم في أمسية شعرية في اتحاد الكتاب والأدباء العرب والفلسطينين.
وإن اغتياله كشخص ومفكر وكاتب في نفس الوقت، لم يَكمّ الأفواه الأدبية الفلسطينية، بل زادها تكاثراً وتناثراً في أصقاع العالم الحر، صرخات يزعقها الأديب الفلسطيني طلقات يسددها في وجدان كل حرّ، فكانوا انتحاريين بقولهم لكلمتهم في أي وقت مهما أحاطهم من جدران الحرج والحساسية والتغييب والقهر، ومن هنا يقترب الأدب الفلسطيني، بل ينطوي على الملحمة، والمأساة، والملهاة، كلّها معاً.
أحمد دخيل في مرآة شوقه، يُجسّد كل ذلك في تراكيب مفرداته التي تحدد معالم وجدانه الشعري بأصالته وبراعته الأدبية:
“وكنتُ أُقطّر شِعري على جرح نفسي
كمئذنةٍ بين روحي وروحي
أراقب كالطّيف..
أجمعُ وجهي من الذكريات ومن كفِّ أمّ
ترتب سرب المشاعر لما تفيض العواطف فيها وفيّ .. ”
وتصطفّ مفرداته برتابة شعرية تغزل رؤية الشاعر المتعمقة في تصوير رؤاه ومشاعره وانفعالاته بذوق رفيع من خلال تجسيده المعنى وتوظيفه وتقديمه وفق خصوصيته التي يتميز بها في دمج الصور في حواس المتلقي، وخلق عالماً متعدد الأبعاد وغنياً يعيشه المتلقي:
“سأحمل قبري كطفل ينادي:
دعوني أُصلّي، دعوني أئن على وردتين..
فكم قدسنا انسحبت في الدماء
وكم شامُنا بات خدّاً ل”يافا”
وكم صار عين” .
أشار الكاتب إلى براعة الاستهلال الشعري في القصيدة، والتشبيه، والإيجاز المُكثّف، يخلق رمزاً تاريخياً ودينياً وشعبياً، تصفع ذهن المتلقي بتجذّر مواقف الشاعر النضالية الممزوجة بروحه الشعرية، ويمتد إلى الرمز الأسطوري في بوحه على نحو يوقظ الخواطر والمشاعر لدى جمهور المتلقين بعناصر القصيدة النحوية والإيقاعية المتوازنة، وتعزيز وصف الجو العام للقصيدة أو حالة الشاعر الشعورية يبثها في المتلقي مستخدماً في ذلك مجمل الخصائص الأسلوبية التي طبعت الشاعر كما يقال في وصف النقد الأسلوبي بالتوكيد أو النفي أو الاستفهام أو النهي أو التمني أو التقديم والتأخير :
“قيلَ: ارحل الآن
وقيل: ستُهزم!
وقيل: ستوأدُ في حفرة
وأنتَ أيا مَوْتُ
إذا متُّ .. قولوا:
تركناه عند مرآة شوقٍ
يغنّي البلاد”
تباغتك الرهبة حيناً، والرغبة والغضب والطرب حيناً آخر، فترتبط هذه الدوافع بمعنى القصيدة الأساسية المكللة بالنضال انتصاراً أو شهادة، شأنه في ذلك شأن أي شاعر يعيش تجربة ولّدت في نغسه أفكاراً وانفعالات جمّة يبثها في صدق معاناته ووصفه الإبداعي الشعري بتمايز رهيف لهذا الشاعر الذي يجسّد مقولة الشاعر الكبير محمود درويش “إذا سألوك عن غزّة، قل لهم: بها شهيد، يُسعفه شهيد، يُصوّره شهيد، يُودّعه شهيد، ويُصلّي عليه شهيد”.
فغزّة هذه عند الشاعر أحمد دخيل هي كل فلسطين:
“فكم قدسنا انسحبت في الدماء
وكم شامنا بات خدّاً ليافا
وكم صار عين”
“مرآة الشوق” ليست مجرد كلمات شاعرية وبيانية بديعة مرصوفة بتواتر أدبي عذب، بل كلمات بالغة القوّة تستند إلى حراك وفعل حقيقي يُخمد الإحباط الذي تسبب به الاحتلال، والأهم أن يبقى ترسيخاً وتدويناً وتأريخاً في الذهن الفلسطيني خاصة، بل والعالمي النضالي عامةً وهذا يظهر جليّاً في تراكيب مفرداته الشعرية بأناقة بديعها وبيانها اللغوي العذب وارتداداتها الوجدانية لمسامع ومشاعر المتلقي يصوغها الشاعر بذوقه اللغوي المميز وعمق نسيجها وتراتيبها :
“فهل تسمح القدسُ
ألثم ثراها
وأن أسكن الآن
في صدرها المشتعل
بضوء البكاء وخمر السنين؟”
ولا يألوا الشاعر جهداً في التلوّن العاطفي يدغدغ أفق المتلقي وفيض مشاعره :
“أُحبُّ البُكُورَ، وأهتفُ للروح:
عودي، وميلي على الجانبين!”
وفي الختام أكّد على أهمية التلون الشعري بمفرداته الهادئة حيناً والصاخبة حيناً آخر في ارتقاء الرحيل، والهزيمة، والوأد، والموت، وقدرته على اختراق سقف البيئة الفلسطينية، والتذكير بالروح والفكرة الشعرية، نراه كحراك شعري مقاوم أصبح يضاهي، بل ويتكاتف مع “السيف أصدق إنباءً من الكتب” في بطولات قصائد مقاومة تُخلّدها الصورة الشعرية والكلمة وهي تُصوّر المعاناة، والظلم، والوحشية، دون التخلّي عن الأمل والتطلّع لعودة فلسطين لحضن أبنائها.
أحمد دخيل، جعل من مرآة شوقه امتحاناً روحانياً للأمم، حلّق بها في سماء فلسطين على أجنحة مفرداته فجعلها غيمة تعبر الجغرافيا لتشكل طيراً يتنقل في سماء الكون، يبثّها، فيحدّقون فيها وما يحصل لها عبر مفرداته المطاوعة لروحه الأدبية ورونقها هو العاشق للمفردة الفلسطينية ببديع بيانها وتركيبها وعمق رؤيته النضالية والفكرية.