الثورة – حسين روماني:
في فضاء معتم لا تحدّه جغرافيا أو زمن، يقيم “البروفيسور إكس” مختبراً ذهنياً مغلقاً، أشبه بحلبة لتفكيك الوعي الإنساني وتجريده من أقنعته.
هنا، في عرض اليوم السابع الذي قُدّم أخيراً في دمشق، يتحول المسرح إلى ساحة اختبار قاسية تكشف هشاشة الذات البشرية حين توضع تحت الضغط والعزلة والجوع، فلا يبقى أمامها سوى الانهيار أو الاعتراف، حتى بما لم ترتكبه.
العمل، المستند إلى فكرة وإخراج الممثل والمخرج السوري كفاح الخوص، وإشراف عام للفنان عجاج سليم، يندرج في خانة المسرح النفسي الرمزي، ويخوض في الأسئلة الكبرى المتعلقة بالعدالة والذنب والغفران، من خلال نص تجريبي مكثف، يضع العرض أربعة شخصيات “مُجرّدة” داخل فضاء مغلق، في تجربة تمتد سبعة أيام، تمثل كلّ
منها مرحلة من مراحل التفكك والانكشاف، وصولاً إلى لحظة الحقيقة الفاضحة.
شخوص على الحافة
الأبطال الأربعة – مراد، سلوى، حميد، وسعيد- ليسوا مجرد ضحايا تجربة نفسية، بل مرايا لأزمات وجودية وإنسانية مركّبة.
مراد، الشاب الذي باع كليته تحت ضغط الحاجة، يقف على حافة العدم، يطارده مقتل شقيقه على يد عصابة تورّط معها، فتتأجج داخله رغبة الانتقام من كلّ ما دفعه إلى هذا المصير.
سلوى، التي نشأت في طفولة مثقلة بالعنف الأسري والتعذيب، تتنقل بين زواج مهشم وأمومة مكلومة، فيما تتغذى ذاكرتها على فكرة القتل كخلاص محتمل.
حميد، المثقل بوصمة أم غائبة وأب قاسٍ، يتخبط في اضطراب نفسي يفقده الثقة بنفسه، ويشعل داخله توقاً للانتقام من الوالدين.
أما سعيد، فيلوذ بالسخرية والدفاع عن صورته المهزوزة، لكن قناعه يتصدع شيئاً فشيئاً تحت وطأة التجربة.
هذه الحكايات الفردية تتحول، بيد الخوص، إلى مونودرامات متشابكة، تتقاطع وتتشابك لتخلق لوحة مسرحية متينة رغم بساطة الأدوات، ديكور محدود، إضاءة متقلبة، وحضور جسدي مكثّف للممثلين.
المسرح كمعمل نفسي
يمتد العرض على مدار سبعة أيام، يتنقل فيها المشاهد بين مراحل متراكبة: من مقاومة أولية، إلى تفكك داخلي، ثم إلى انكشاف مؤلم، على الخشبة، يتقاطع الواقع مع الوهم، الاعتراف مع الهلوسة، والذاكرة مع الخيانة الذاتية.
لا يعود السؤال محصوراً في الجريمة والعقوبة، بل يتسع إلى مساءلة وجودية، ماذا تعني العدالة حين تُختزل في مختبر قاسٍ؟ هل الذنب حقيقة أم فرضية يُصنع بها؟.وأين ينتهي دور الجلاد ليبدأ دور الضحية؟.
لغة قريبة وسرد بصري مكثف
اختار المخرج اللهجة السورية المحكية لغة للعرض، لمدّ جسر مباشر مع المتفرج وإضفاء تلقائية على الأداء.
هذه اللغة اليومية لم تُستعمل كأداة تواصل فحسب، بل كوسيط درامي يعكس هشاشة الشخصيات ونبرة معاناتها.
إلى جانب ذلك، استعان العمل بسرد بصري مكثف، فيديوهات أرشيفية، إيقاعات جسدية، إضاءة متقلبة، وهمسات صوتية خانقة. هذه الوسائط لم تُقدَّم كخلفية شكلية، بل كجزء من التجربة الحسية التي تحاصرالمتلقي وتدفعه إلى إعادة التفكير في مفاهيم العقاب والمغفرة.
في اليوم السابع، تصل التجربة إلى ذروتها، اعترافات كبرى تتفجر، أدوارالسلطة تنقلب، وتُعاد صياغة فكرة الذنب بعيداً عن أروقة المحكمة التقليدية.
هنا، تتكشف حقيقة أن الجلاد والضحية ليسا سوى وجهين لعملة واحدة، وأن الهشاشة الإنسانية لا تعفي من المسؤولية بقدر ما تفضحها.
العرض، الذي شارك في بطولته أحمد ناصيف، مفيدة البزرنجي، سامر السمان، عبادة العبود، ورايان الخوص، لم يكتف بسرد قصة مغلقة، بل قدّم تجربة مسرحية شاملة تحاكي المختبرالنفسي أكثر مما تحاكي الخشبة التقليدية.
ما بعد الجدار الرابع
في جوهره، يضع اليوم السابع الإنسان أمام مرآة ذاته العارية، حيث لا مجال للهروب من الصمت أو الاختباء وراء أقنعة اجتماعية وأخلاقية، الجمهور نفسه يُستدرج إلى المشاركة غير المعلنة، يراقب الشخصيات وهي تتفكك، لكنّه في الوقت ذاته يجد نفسه معنياً بالأسئلة التي تُطرح.
بهذا المعنى، يتحول العرض إلى تجربة مزدوجة، اختبار على الخشبة، واختبار آخر في ذهن المتلقي، إذ يتقاطع السؤال الفلسفي مع التجربة الحسية.
ليست “اليوم السابع” حكاية عن مجرمين فاقدي الذاكرة وحسب، بل محاولة لتفكيك البنية النفسية والاجتماعية التي تصنع المجرم وتدفعه إلى الانهيار، إنها مواجهة مع فكرة أن الذنب ليس دائماً فردياً، بل هو أيضاً مرآة لمجتمع مختلّ يساهم في إنتاج العنف وإعادة تدويره.
على هذا النحو، ينجح كفاح الخوص في تقديم عرض يزاوج بين الرمزية النفسية والملموس الحياتي، ويستدعي من المشاهد مساءلة ذاته، ماذا لو وُضع في مختبر كهذا؟.أي الأقنعة ستسقط أولاً؟. وأي اعتراف سيكون آخر ملاذ له؟.