فاجعة في كلية الصيدلة.. كيف خسرنا الأستاذ محمد؟

الثورة- ميساء العجي:

في صباح الأحد، 9 تشرين الثاني 2025، لم يكن أحد من طلاب كلية العلوم في جامعة دمشق، أو الكادر التدريسي والمخبري، يتوقع أن هذا اليوم سيُسجل في تاريخ المؤسسة كواحد من أكثر أيامها حزناً.

فبينما كانت الحياة الجامعية تمضي كالمعتاد، وقع انفجار داخل أحد المخابر، أودى بحياة المخبري الخبير محمد غانم، الذي قضى ما يزيد على 30 عاماً في خدمة الكلية.

تحوّل الحادث إلى مأساة إنسانية فجّرت تساؤلات كبيرة، حول ظروف الحادث، والثغرات العميقة في منظومة الأمان المخبري وإجراءات السلامة، وسلطت الضوء على قصور واضح في جاهزية فرق الإسعاف داخل واحدة من أهم المؤسسات العلمية في البلاد.

وللوقوف على تفاصيل الحادثة التي ما زال التحقيق مستمراً فيها، أجرينا جولة ميدانية في كلية الصيدلة، حيث التقينا بالمشرف الصيدلاني عبد الرحمن حليمة، أحد الشهود على ما جرى داخل المخبر، إلى جانب مجموعة من طلاب السنة الثالثة الذين كانوا قريبين من موقع الانفجار.

كما استمعنا إلى شهادة مؤثرة من وسيم غانم، نجل الراحل، الذي عايش لحظة بلحظة معاناة والده في الدقائق الحرجة..

الشرارة الأولى

عبوة يفترض أن تحتوي على نترات الفضة.. وهي في الحقيقة ليست نترات فضة!!، يقول المشرف الصيدلاني عبد الرحمن حليمة، أحد الشهود على ما جرى داخل المخبر: إن ما قبل الانفجار كان طبيعياً، وكانت هناك عملية جرد للمخبر، وقد وجدت المخبرية التي تقوم بعملية الجرد عبوة مكتوب عليها نترات الفضة، وشكل المادة لم يكن طبيعياً حسب حليمة، لأن المادة المذكورة هي عبارة عن بودرة بيضاء، أما محتوى العبوة فكان مادة صلبة رمادية بحواف حادة، فقلت لها فوراً وأكدت أنها ليست نترات، لأن هذا ليس شكل نترات الفضة، ثم عدت إلى المكتب، فيما تابعت الدكتورة المخبرية الجرد، لكن دقائق فقط كانت كافية لتغيير كل شيء.

ويفصّل المشرف حليمة المشهد قائلاً: “بعد دقيقة فقط رأيت ضوءاً قوياً خارجاً من المخبر، بعدها سمعت أصوات ركضت إلى المكان لأرى دخاناً وطلاباً يصرخون ويرددون أن جسد الأستاذ محمد كان يحترق من المنتصف حتى الأعلى.

حاول كل من كان موجوداً في المخبر إطفاء النار بسرعة ممكنة، لكن مطفأة الحريق كانت منتهية الصلاحية، وهي مازالت منذ خمس سنوات”.

الصدمة التالية: بعد الاتصال مع النجدة، الإسعاف لم “يصدق” الحادثة، ولم يتجاوب مع المكالمة الأولى، واعتقد أنها مزحة، و يقول حليمة: أحد الطلاب اتصل، وقال: إنه يوجد حريق بكلية الصيدلة وهناك مخبري احترق، وكان الرد أأنتم تمزحون؟ ليس هناك أي شيء، هذا الرد أضاع دقائق ثمينة كانت كفيلة بتغيير مسار حياة رجل.

الجميع يتوجه نحو المشفى وهناك باب مغلق!!

حمل الطلاب والمعيدون الأستاذ محمد الذي يعاني من حروق من الواضح خطورتها، توجهوا نحو باب المشفى ومعهم لانتظار قدوم سيارة إسعاف وكسب الوقت، لكن الباب الداخلي وهو الباب الموجود بين الكلية والمشفى والمفروض أنه مخصّص لحالات الطوارئ كان مغلقاً، ما اضطر هؤلاء للالتفاف إلى الباب الخارجي، والوقت يمر والنزيف يزداد.

وتابع أن المفاجأة الأكبر بانتظارهم: المشفى رفض استقبال الحالة بحجة عدم وجود عناية حروق، ولا إسعاف أولي، ولا غسل جروح، ولا مواد معقمة.

“رفضوا فعل أي شيء، ولا حتى محاولة إنقاذ أولية لواحد نصف جسمه قد احترق.

وأوضح وسيم غانم، ابن الأستاذ محمد قائلاً: “بعد الرفض، جاء أحد موظفي الكلية بباص المبيت، وهو وسيلة نقل غير مهيأة طبياً لنقل الأستاذ محمد إلى مشفى المواساة، دخل العناية المشددة، وبدأ الجزء الأصعب من القصة.

علاج تحت سقف الإمكانيات الناقصة

منذ اللحظة الأولى واجهت عائلة الراحل نقصاً كبيراً في المستلزمات: نقص مواد التعقيم، دورات مياه معطّلة داخل قسم يُفترض أنه عناية مشدّدة، عدم توفر أدوية أساسية مثل الألبومين الذي اضطرّت العائلة لشرائه بسعر 500,000 ليرة للعلبة، عدم وجود فريق مختص بالحروق، عدم وجود طبيب صدرية دائم في القسم.

ويقول ابنه وسيم غانم: “ثلاث وفيات كانت أمام والدي خلال أسبوع، والأمر أثّر في نفسيته، لكنه كان يمشي رغم ألمه ليقوّي جسمه، ويحاول أن يأكل أكتر من الطبيعي ليبقى جسده قوياً، وحاول رغم نقص تعقيم الأقسام، ووجود عدة أنواع من الجراثيم داخل العناية، دخل الراحل في تدهور تنفسي.

راجعت العائلة طبيب صدرية خاصاً ليلاً من خارج المشفى ، أرسلوا له الصور، فعدّل بروتوكول العلاج لكن الضرر كان كبيراً.

اللحظات الأخيرة

في اليوم الأخير، قرر فريق العناية وضع الراحل على جهاز التنفس الاصطناعي بسبب إرهاق الرئتين، “بقي خمس ساعات فقط، بعدها توفي”، يقول وسيم بصوت مكسور: منذ اليوم الأول، حاولت العائلة نقل الأستاذ محمد إلى مشفى خاص، لم يكن الهدف وجود “عناية حروق” ..فحتى بدونها

كانت الأولوية مكاناً معقماً، آمناً، لا ينقل العدوى لجسمٍ محروق، لكن الجواب كان دائماً من المشفى” لن نخرجه على مسؤوليتنا” حتى خرج جثماناً.

والدي راح شهيد العلوم ولا نريد لدمه أن يذهب هكذا، خدم الكلية 30 سنة، وكان أقل ما يمكن أن يُسعف، ويتابع وسيم بوضوح: “نحن لا ننكر فضل كل شخص وقف معنا، من معيدين، ودكاترة، وطلاب، جزاهم الله الخير لكن نريد شيئاً واحداً، نريد تحقيقاً سليماً يمنع تكرار مثل هذه الكارثة”.

سلسلة الأخطاء ليست حادثة يوم واحد و تتقاطع شهادات حليمة مع كلام العائلة: مواد مخبرية منتهية الصلاحية، مواد موثّقة بشكل خاطئ، مطافئ غير صالحة، غياب تدريب على السلامة، دوشات أعطال، أبواب طوارئ مغلقة، إسعاف لا يتجاوب، مشفى يرفض استقبال حروق، عناية تنقصها أدوات التعقيم، غياب أطباء اختصاص أثناء الطوارئ منع نقل المريض لمكان أفضل، كل ذلك أدى إلى النهاية.

حادثة وفاة الأستاذ محمد ليست حادثاً فردياً، إنما نتيجة تراكمية لسنوات من الإهمال في منظومة كاملة: الكلية، السلامة المخبرية، الإسعاف، المشافي، إدارة العناية المركزة في المشافي، والسؤال الحقيقي ليس: كيف مات الأستاذ محمد؟

السؤال هو: كم محمد سيغادر الحياة إن بقينا نكرر الأخطاء ذاتها؟ هذه الفاجعة يجب أن تكون نقطة بداية.. لا سطراً أخيراً.

آخر الأخبار
مذكرة تفاهم مع شركتين أميركيتين.. ملامح تحول في إنتاج الغاز انطلاقة جديدة لقطاع الطاقة.. شراكات عالمية قد تفتح الباب لزيادة قياسية في الإنتاج محطة ترحيل النفايات في بانياس تعمل بكامل طاقتها افتتاح 13 مدرسة مؤهلة في ريف إدلب.. خطوة لعودة الحياة التعليمية إلى مسارها زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن تغيّر المعادلة.. إسرائيل خارج ملف السويداء "حلب أم الجميع": الجالية السورية في تركيا تتعرف على مشاريع إعادة الإعمار ارتفاع الأسعار بلا رقابة.. الحكومة تتحرك لتصحيح المسار قوة الاقتصاد تبدأ من المنزل.. المشاريع الأسرية محرك جديد للتنمية انضمام سوريا للتحالف الدولي.. فرض معادلة جديدة ونهاية لذرائع "قسد" في ألمانيا.. محاكمة خمسة متهمين من سوريا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وزارة الداخلية السورية ترفع قيود السفر عن أكثر من 150 ألف شخص استثمار ميناء طرطوس فرصة لتطويره وبوابة ثقة لشركات إعادة الإعمار الأسواق المالية.. فرص متساوية وحوكمة شفافة لتعزيز ثقة المستثمرين مجلس الأمن يناقش الوضع السوري في جلستين مغلقة ومفتوحة تغذية مستمرة منذ 48 ساعة.. أضواء مدينة حلب لم تنطفئ جريدة (الثورة السورية) تلامس شغف الرياضيين بنسخة ورقية منتظرة من يملك الثقل الأكبر في انتخابات اتحاد الكرة ؟ أهلي حلب وحمص الفداء لنصف النهائي مدارس حلب بين الدمار ومحاولات التعافي.. أرقام تكشف حجم التحدي وجوه تتجلى في ختام ورشة "شاماري "