الحوارات التي تدور بيني وبين بعض المهاجرين السوريين مؤسفة فعلاً، كأن الطبل في حرستا والعرس في دوما.
وإذ أقول المهاجرين وليس – المهجّرين وأشدد على ذلك – هو لأن أغلبهم هاجر طوعاً بحثاً عن جنة جديدة باعتبار أن وطنه هو الجحيم، وأنه الآن في الغربة العظيمة التي استطاعت تفجير طاقاته الإبداعية والمادية ولم يعد يرغب بالعودة إلى الوراء ..فالوطن هنا هو الوراء .. وهو الذي لم ينصفه ولم يستطع اكتشاف مواهبه الفذة التي كانت مختبئة أو مقموعة؟
ثم يعيد ويكرر أن الغربة صقلت شخصيته ..وعلمته النظام ..وأظن بأنها علمته أهمية الوقت وأهمية العمل بإخلاص على عكس ما كان يقوم به في وطنه الأم سورية ..وهذا شيء جد واقعي لأن الغربة قاسية وتذل الشخص الذي لا يعمل ..كما أنها تجدد الذهن والابتكار للتحايل على صعوبة العيش ومحاولة التأقلم والانخراط في ثقافة جديدة ومجتمع جديد له عاداته وتقاليده المختلفة
لكن المهاجر السوري- وعلى عكس معظم الذين قابلتهم من بلدان أخرى – لا يترك فرصة إلا وينمّ على بلده وعلى شعبه ..ولا يصح له منفذاً إلا ومرر عبره انتقاداته وخيباته وحسرته على ضياع عمره في الوطن ..وكأن هذا الوطن ليس هو وأنا وأنتم وليس هو الذي كان يهدمه ويدمره ..وهو الذي ساهم في خرابه من خلال اهمال واجباته تجاهه وهدر وقته دون فائدة سوى أن ينتقد الآخرين وكأنه هو المعصوم والشريف والوطني والمبدع والمظلوم، وإذا ما سألته ( لماذا لم تحرك ساكناً قبل هجرتك ؟ ولماذا لم ترفع صوتك عالياً ؟ لماذا لم تفعل شيئاً؟
عندئذ سيفاجئك رده ..والذرائع التي يضعها ..والأكاذيب التي يخترعها ..ثم ينتهي به المطاف إلى أن يقول وبكل عنجهية (شو بدي أعمل وغيّر براتب 35 ألفاً؟ )
معه حق .. هذا المهاجر الذي كان راتبه (سبعمئة دولار) قبل الأزمة التي اختلقها السوريون.وتعاونوا مع العدو التاريخي كي تبقى متأججة ويتحول راتب الموظف إلى خمسين دولاراً أو سبعين دولاراً، ومع ذلك مازال البعض يسميها ( ثورة حرية )
حرية ( شو ؟؟)
حرية أسعار ؟..حرية اقتصاد وتطور خدمي و تعليمي وصحي أفضل؟ حرية (شو) أيها السوري الذي هربت من وطنك وواجباتك وانتمائك ورحت تبحث عن وطن آخر تمنحه طاقتك وشهادتك العلمية والمهنية، ثم تقول (الراتب لا يكفي في البلد ) نعم ..لا يكفي .. ولكن سابقاً كان يكفي لأن تعيش بكرامتك ..ولأن تعلم أولادك …ولأن تتمكن من دفع قروض بيتك ..نعم كثرت الشكوى ..وازداد الفساد ..وصار الأمان سلعة نادرة ..وصارت الحياة مظلمة ..لا كهرباء ولا ماء ولا بترول ..أو ..صار السوري الشريف على باب الله واقفاً مناجياً.. فقد أغلقت الأبواب كلها في وجهه ولم يبق إلا وجه الرب الكريم. لكن من الذي أوصلنا إلى الأبواب المغلقة ؟
لماذا لم يخرّب الفرنسيون متاحفهم ومؤسساتهم ويحرقوا قطاراتهم ومزارعهم، ولماذا يحق لشرطة باريس أن تسجنهم وتحاسبهم ولا يحق للدولة أن تحاسب من فجر أنابيب النفط والغاز.. وحرق قطاراتنا ومزارعنا.. ونهب ودمر آثارنا وجوامعنا ؟ لماذا تكون محاسبة المتظاهرين في الغرب (باسم معاقبة مشاغبين، يهددون أمن الدولة ) ويكون عندنا تحت اسم ظلم وقمع حريات..وكم أفواه .. وسجون ومعتقلات ..مع أن ما فعله جزء من الشعب السوري لم يفعله حتى البرابرة ..ولم يقم به حتى هولاكو نفسه .. فهل تفسر لي أيها المهاجر الذي يرتدي ثياباً مستعارة وفكراً مستعاراً ما علاقة – العالم الآثاري خالد الأسعد بحريتك ؟ – وهل دفاعه عن زنوبيا وأبجدية تدمر هو الذي أعاق رفاهيتك؟ )
مؤسف أن يظل خطاب المهاجر السوري على تصحره وتشوهه.. لقد اتضحت الصورة للعالم كله.. حتى للأعداء – ومع ذلك لم تتضح الصورة بعد للمهاجر السوري الذي ترك وطنه للغرباء، يدمرونه ويغتصبون تاريخه.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 12-12-2018
رقم العدد : 16858