ليس اعتراضاً على أن يقوم القطاع الخاص بتنفيذ سياسة إحلال بدائل المستوردات، التي طرحتها وزارة الاقتصاد مؤخراً، فالقطاع الخاص ذراع وطني ضخم للدولة، وعليه أن يتحمّل مسؤولياته فعلاً، ولاسيما أنه قادر على ذلك وإلى حدّ بعيد، ويكفي أن ترسم له الدولة تلك الأهداف بوضوح، ويطمئن على جدوى الخوض في غمار التنفيذ، لأن العمل على خلق بدائل للمستوردات، هو نمطٌ استثماري مغر، لأنه لا خوف من تسويق الإنتاج، وما دامت القضية مطروحة بهذا الشكل، فإن المصنع الذي يُقلع بالإنتاج فعلياً، من المفترض أن يترافق هذا مع قيام وزارة الاقتصاد بإيقاف استيراد السلع التي استُعيض عنها بمنتجٍ وطني.
إننا نعي ذلك جيداً، ولكننا نعي أيضاً أن القطاع العام قادرٌ على المساهمة في خلق بدائل من جانبه، ولو عن بعض المستوردات، فليس صحيحاً الزعمُ بأنّ القطاع العام غير قادر على قيادة التنمية على المدى الطويل، لافتقاره للمرونة المطلوبة، وبحجة أنه يحظى دائماً بحماية الحكومات من دون اعتبارات اقتصادية كاملة، الأمر الذي يؤدي إلى تشويه الاقتصاد..!
هذا الأمر قد يكون وارداً، ولكن الحكومات نفسها هي التي تقوم دائماً بسلب القطاع العام مرونته، كما أنّ الأمر قد لا يحتاج إلى تلك المرونة المتوهَّمة، كي يكون مساهماً في تنفيذ هذه السياسة في إحلال بدائل المستوردات، ذات البعدين الوطني والاقتصادي المهمين جداً، ولنا في ذلك مثالان مهمان جداً:
الأول: شركة تاميكو لصناعة الأدوية، التي استطاعت عبر السنين أن تُشكّل خبرات كبيرة، وثقة أكبر، على الرغم من أنها شركة قطاع عام، ولم تحتج من أجل هذا النجاح إلى منحها دفقاتٍ من المرونة غير المألوفة، ففي إطار تقيّدها بأنظمة وقوانين القطاع العام استطاعت أن تحقق نتائج باهرة، وأن تصدّر إنتاجها إلى العديد من دول العالم، وهذا ما ينفي ربط المساهمة بالإفراط في المرونة.
الثاني : مؤسسة الإسكان العسكرية، وهي مؤسسة قطاع عام إنشائي، فالكثيرون يذكرون أنها عند بدء تأسيسها أُعطيت المرونة الكاملة، فراحت تعمل وتنمو بعقليةٍ عملية اعتمدت على مبادرات إدارتها التي راحت تعمل كل ما تراه مناسباً لمصلحتها، فأبدعت في أعمالها، ووفّرت عشرات آلاف فرص العمل الكريمة، وأقامت لنفسها العديد من المصانع المنتجة لمواد البناء، كمصانع الاسمنت والقرميد، والبورسلان، والسيراميك والدهانات، وورش النجارة والحديد ومصانع البلوك والأطاريف، وقساطل الري، وما إلى ذلك الكثير، حتى تعملقت بشكلٍ مدهش، وشكّلت امبراطورية انشائية حقيقية، واستطاعت أن تخرج بأعمالها إلى الساحة العالمية، حيث وصلت بها الشجاعة إلى تنفيذ مشاريع في العديد من الدول، فنفذت مشاريع في ليبيا وفي اليمن، والسودان، وحتى في روسيا، وهذا ما يؤكد أن منح المرونة للقطاع العام ليس معجزة، بل هو وارد جداً، إن أردنا ذلك، ولا داعي لظلم هذا القطاع.
ولهذا فإن مشاركة القطاعين العام والخاص بعناية، في تنفيذ هذه السياسة، ليكونا معنيان معاً بالقيام بهذه الصناعات البديلة، لعله هو الشكل الأفضل، والأكثر اكتمالاً في التصدي لمثل هذه المهام الوطنية الحسّاسة والمهمة.
علي محمود جديد
التاريخ: الأثنين 7-1-2019
رقم العدد : 16878