الفضاء القومي …و «المخيال» الاجتماعي

 

الهوية هي شعور بالانتماء إلى وطن، وبالنتيجة انتماء إلى أمة في فضاء أوسع وأشمل، وأعتقد أننا لسنا بحاجة لرحلة بحث عن الهوية، ولكن ثمة من يشتغل ويعمل للدفع بنا إلى ساحة جدال حول الهوية والانتماء وهذا كله يجري في سياق استثمار ما شهدته المنطقة العربية من أحداث خلال السنوات الماضية، وما شابها من أشكال العنف والقتل والتطرف، وما استجره ذلك من طرح أسئلة عميقة لم تكن خلال عشرات السنين مسائل خلافية أو حتى مطروحة بقوة في حقل النقاش الهوياتي أو ضاغطة في ساحة الجدل الفكري كالانتماء الوطني والقومي وغير ذلك من أشكال الانتماء.
إن الانفجارات المجتمعية التي حدثت في بعض الأقطار العربية، والاحتجاجات في بعضها الآخر، وأشكال الإرهاب والتطرف الذي حصل لا يمكن إرجاعها إلى قاعدة رفض مجتمعي واع للكيانات الوطنية القائمة ومحاولة استبدالها بكيانات على حوامل أخرى في فضاء أوسع حتى لو كانت الفكرة الداعشية القائمة على الإقصائية الدينية والمذهبية وفكرة المؤامرة قائمتان فثمة أسباب تتعلق بالبناء السياسي وشكل السلطة والصراعات الاجتماعية ومتلازمة الفقر والفساد والاستبداد فالمسألة هنا تتركز حول فضاء سياسي ديمقراطي حقيقي وحكم رشيد وعدالة وحكم للقانون لا تحكّم وتسلط.
لقد ارتبطت ظاهرة العنف والإرهاب التي شهدتها المنطقة العربية ببروز القوى الإسلامية أو لنقل المتأسلمة في الواجهة لتستثمر الحراك الذي حصل في بعض الأقطار العربية، كونها الأكثر تنظيماً في ظل غياب أحزاب فاعلة وقوى سياسية منظمة ومجتمع مدني راسخ لتتصدر المشهد وتقصي الحركات السلمية التي لا تؤمن بالعنف طريقاً للتغيير والإصلاح في سعي منها لاستبدال الاستبداد السياسي بالديكتاتورية الدينية المتطرفة وهي الأشد خطورة على المجتمعات من غيرها مستخدمة في ذلك العنف والإرهاب والقتل ليكون الطريق الموصل للسطو على السلطة بدل صناديق الاقتراع، إضافة إلى أنها استخدمت في بعض الأقطار الغربية كأداة لإسقاط الأنظمة التي تقف في وجه المشروع الأميركي الصهيوني وتحمل رسالة العروبة الحضارية.
إن السعي للتغيير السياسي ورفض أنظمة الاستبداد شيء والتمرد على الكيانات الوطنية والهوية الجامعة شيء آخر، ولا يمكن الربط بينهما، فالساعون واللاهثون للانقضاض على الهوية الجامعة وجدوا في الأحداث التي عصفت بالمنطقة فرصتهم للانقضاض على الهويتين الوطنية والقومية متخذين من موقف بعض الحكام العرب أو لنقل المحكومين بإرادة الأجنبي وأجندته ذريعة ليماهو بين مواقف الحكام وموقف الشعوب التي هي في الأساس ضحية سياساتهم الذيلية ومؤامراتهم على الأمة العربية منذ أن نصبوا في الحكم ليؤدوا الدور الوظيفي المرسوم لهم.
إن الدعوات المشبوهة التي بدأت تدفع باتجاه الانتماءات الضيقة ومحاولة اصطناع أو الاشتغال على (مخيال) اجتماعي فئوي وتهيئته في عملية سطو وسرقة للتاريخ مسألة محكوم عليها بالفشل لأنها تفتقد بعدها المعرفي الحقيقي ولا تعدو كونها عملية تجميع أوراق مبعثرة من التاريخ المتخيل لا تجد لها سنداً موضوعياً. فالتاريخ ليس بيتاً مهدماً تحول إلى كومة أحجار يمكن إعادة ترتيبها وبنائها رغبوياً أو حسب الحاجة، فهو حقائق ووقائع تحفظها الذاكرة وبطون الكتب وشواهد الجغرافية والذاكرة الجماعية النظيفة غير المتحزبة، وهذا لا يعني أننا في حالة ضياع فكري أو بحث عن هوية وراشدة نستدل منها على هويتنا فالعروبة بالنسبة لنا انتماء وليست خيار وهو ما أكد عليه السيد الرئيس بشار الأسد في لقاء أجرته مع سيادته قناة المنار قبل ثلاث سنوات.
إن الربط بين ما يجري من ارتدادات على الساحة القومية من تحلل على المستوى الوطني والمجتمعي وبين مفهوم الهوية هو ربط غير موضوعي فالمسألة مرتبطة أساساً ببنية الحكم وطبيعته وسلوكه وفساد الأنظمة لا بل إن المصلحة الوطنية والمجتمعية تكمن في الفضاءات الوسعة والتكتلات ما فوق الوطنية وهذا حال أكثر دول العالم في عصرنا الحاضر حيث تتقلص المسافات بين الدول في عولمة لا تعير أي اهتمام أو حساب للكيانات الصغيرة بل تبتلعها أو تضعها على القارعة في طريق سريع نحو المستقبل.
إن السعي والبحث الجاد عن إطار قومي جامع لم يعد ترفاً أو رومانسية سياسية بقدر ما هو حاجة ومطلب وضرورة تستدعيها التحديات الوجودية التي تواجه أوطاننا وأمتنا العربية وهي في دائرة الاستهداف والخطر فاللحظة التاريخية حاضرة وضاغطة والزمن لا يرحم الباحثين عن اجترار حلول من السماء.
د. خلف المفتاح
khalaf.almuftah@gmail.com

التاريخ: الأثنين 14-1-2019
رقم العدد : 16884

آخر الأخبار
بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة تفقد معبر العريضة بعد تعرضه لعدوان إسرائيلي الرئيس الأسد يصدر قانوناً بإحداث جامعة “اللاهوت المسيحي والدراسات الدينية والفلسفية” الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم