منذ أسابيع قريبة احتفل العالم باليوم العالمي للغة العربية، وأعداد من يتحدثون بها إلى تزايد مستمر في تأكيد على صمودها.. وقد تم تصنيفها في المركز الرابع من بين أكثر اللغات انتشاراً، وفي المركز السادس كلغة رسمية لدى الأمم المتحدة.. ومجامع اللغة العربية تعنى بها تجديداً، وصوناً لأسسها، وقواعدها، وضوابطها التي لا يجوز تجاوزها.
إن الأساليب اللغوية البليغة التي تنطوي عليها لغتنا، والمرونة التي تتمتع بها لغنى مفرداتها، وقدرتها على دقة التعبير ما يسمح لها بالتجدد من داخلها.. ومن ثراء اللغة العربية تعدد المعنى للمفردة، والذي يُفهم أيضاً من سياق العبارة.. كل هذا ما يجعل منها درة متألقة، ومتفردة من بين اللغات.
أما ارتباطنا الوثيق بها فمرده إلى أنها تشكل هوية الأمة، وتعزز الانتماء، وتحمل تاريخنا المشترك.. وماذا أهم لهذه اللغة أيضاً من أنها لغة الخطاب الإلهي للبشر؟.. إن قوتها، ومتانتها تحول بينها وبين الاضمحلال، أو الاندثار لتظل لغة حية لا تموت.. ولكن.. ماذا سيكون من أمرها بعد أن حملنا فأس التهديم لها بأيدينا عندما خرجنا عن أصولها، وتمردنا على قواعدها، وأدخلنا عليها مفردات، واشتقاقات ليست من نسيجها؟.. حتى أن الاصطلاحات التي اعتمدتها مجامع اللغة العربية للتقنيات المعاصرة كان مصيرها الإهمال، وعدم الاكتراث بها، وبعضنا اتهمها بعدم الدقة، أو الملاءمة.
وموجة العولمة والتواصل تجتاحنا فإذا بنا في مركب السرعة نختصر الوقت من خلال تعابير تسيء إلى اللغة، ولا تسعفها حتى أصبحت لغتنا مجروحة بضعف التعبير، والكلمة الهزيلة، والخطأ اللغوي جهلاً، أو سهواً.
وكذلك موجة العامية أصبحت هي الأخرى تجتاحنا في تجاوز سافر للفصحى تلك التي تضبط المعنى، وتؤصله. وإذا كانت اللغة العربية تتميز ببلاغتها، وقدرتها الفائقة على احتواء الكلمة، والدقة في التعبير، فإن التمرد عليها يفقدها كثيراً من جمالها، وقيمتها، ويتجه بها نحو الضمور، والانحدار وقد اكتسحتها العامية، وخاصة عبر الوسائل الحديثة للتواصل، وحتى أن بعض الكتّاب نتيجة لذلك باتوا يستسهلون الأمر لينتجوا لنا أعمالاً يصفونها بالأدبية وهي تنطق بالعامية.
اللغة هي أداة معرفة وتواصل، ووعاء تفكير.. ولغتنا كأهم مقومات الوحدة العربية هي مشترك لغوي يلغي كل الحواجز بيننا ليكون التواصل، والتفاهم.. فما بالنا أصبحنا نشعر بالغربة عنها بعد أن دخلت إليها كل تلك الانتهاكات لسلامتها، وروعة بيانها؟.. وإذا كانت الفصحى تجمعنا فهل ستفرقنا العامية وقد تعددت لهجاتها؟.. لا نطالب باستخدام الفصحى في تعاملاتنا اليومية والسريعة وإنما باللغة السليمة، والصحيحة على الأقل.
عوامل عدة أسهمت فيما وصل إليه الحال، وعلى رأسها ثورة المعلومات والرقمية، وقد كانت العربية من قبل هي لغة العلوم التي نهل منها الغرب في نهضته الحضارية، ولغة الحضارة التي سادت يوم كان الغرب يغرق في ظلامه.
إنه الغرب ذاته الذي أصبح يصدّر إلينا اليوم منجزه الحضاري، ولا يهتم كثيراً لترجمة تطبيقاته التكنولوجية الحديثة إلى العربية.. أو أننا نحن مَنْ قصّرنا في حق أنفسنا ما شجع على تداول المفردة الأجنبية على نطاق واسع حتى طغت؟ وإذا كان الغرب بأساليبة الاستعمارية في الهيمنة، واستلاب الشعوب يهدف إلى طمس لغتنا، أو تمزيقها بعد أن نهل منها أساس علومه كلها التي قامت عليها حضارته فالأحرى بأبناء لغة الضاد أن يغاروا على لغتهم، ويصححوا مسارهم الخاطئ في استخدامهم لها.
كل هذا ودون أن ننسى أهمية اللغة العربية في تنشئة الأطفال، وفي التواصل الصحيح بين أبنائها، والمتحدثين بها.. وكذلك الإعلام وهو غير بريء إذ ساهم كثيراً من خلال برامجه، ومسلسلاته العامية، والمغرقة أحياناً في عاميتها، في الابتعاد عن الفصحى حتى أن بعض الفضائيات العربية باتت تطلق نشراتها الإخبارية باللغة العامية.. فإلى أين سيأخذنا هذا المسار.. وهل ستولد لغة جديدة هشة، وضعيفة من لغتنا الأم؟
وإذا كان اليوم العالمي للغة العربية يهدف إلى تسليط الضوء على دورها الحضاري في العلوم، والفنون، والآداب فلماذا لا يُخلِص أبناؤها في استخدامهم لها ولو بالحد الأدنى؟.. ثم لماذا لا يُكرس للاحتفاء بها على مدى عام كامل على غرار أعوام الثقافة للعواصم للتوعية بأهميتها، وللتنبيه إلى ما أصبح يحدق بها من أخطار، وما قد يؤول إليه الحال إذا ما استمر على هذه الحال؟.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 25-1-2019
الرقم: 16894