لا أذكر أنني كنت أتشوق للعودة إلى المدرسة، وربما في عامين فقط كنت أنتظر افتتاح المدارس لكي أرتاح من عناء الحصاد والدراس والحقل والبيدر وجني الحبوب، فقد كان الحصاد في حوران من الأعمال الشاقة التي تبدأ منذ منتصف الليل حتى غروب الشمس، لا يتخللها إلا استراحات تناول الطعام على عجل أو قضاء حاجة مستعجلة، وكانت استراحة الغداء وبصورة أدق ضرورة الغداء، كانت مناسبة لاستنهاض الهمم في العمل وطلب الإسراع في الانتهاء من تناول الطعام والتفرغ للعمل بأسرع وقت، وكان ذلك مقروناً بالقول: ( كل أكل الجمال، وقم قبل الرجال).
هذا القول الذي وصل درجة الحكمة المؤكدة يهدف إلى الاستفادة من كل دقيقة لجمع المحصول من القمح والشعير والعدس والحمص وغيرها قبل بدء رياح أيلول التي قد تأخذ بعض تلك الغلال، فليس أحرص من الفلاح على كل حبة قمح من الضياع، فمكانها إما الزرع في الأرض المناسبة أو الاستقرار في بطون الأبناء والأهل والضيوف وإما الاستقرار في الأكياس استعداداً لبيعها واستبدالها بمبالغ تمكن الفلاح من شراء احتياجاته ومستلزمات أسرته.
هذه الصورة المتعبة للحياة الكادحة في الريف الحوراني ربما جعلتني أترقب بصبر افتتاح المدرسة مستغنياً عن حفلات السمر وسباقات الخيول والحمير وبرد الخريف الحارق وملاحقة طيور السمن والزرازير والقبول بهيمنة المعلمين ممن يحملون العصي الغليظة، يؤدبون بها الصبية دون خوف من ملاحقة الأهل أو ملاحقة أجهزة التفتيش في مديرية التربية، بل على العكس كان ذلك الفعل يلقى دعم ورضا وتأييد الأهل .
كانت أيام الدراسة تبعث الحزن في نفوس أبناء الريف الحوراني في توقيت الخريف الذي يحرمهم من متع اصطياد العصافير باستخدام الأفخاخ ونصبها حول المستنقعات ومجاري المياه أو الحفر الاصطناعية الصغيرة التي تنصب حولها الأفخاخ الصغيرة لصيد القبرات وطيور الزرزور بعدما امتلأت دسماً في الصيف الغني بمختلف أنواع وأشكال الحبوب والخضر والفواكه.
كان الذهاب إلى المدرسة أقرب إلى الإكراه، لكن مستويات التعليم والتعلم والاستيعاب تأتي في أعلى مستوياتها فيرضى الأهلون والمعلمون ويمضي الطلاب إلى مواقع يرتضونها بأنفسهم أو باختيار الأهل، وهنا حالة الرضا، تبعد المشكلات وتمنع المواجهات السلبية، وتسود البساطة ويغيب التعقيد.
مصطفى المقداد
التاريخ: الأثنين 4-2-2019
رقم العدد : 16901