واضح أننا -في الحرب الإرهابية على بلدنا- نواجه صورة من التشابك في توزيع الأدوار: إقليمياً، ودولياً. فالدور الإقليمي في الحرب علينا كان، وما يزال أداةً رخيصة في الدور الدولي، ونتذكر كيف كان الحرص الأمروصهيوني على إدارة هذه الحرب من الخارج وكيف تمّ توفير كافة الظروف التعبوية، واللوجستية للإرهابيين لكي يتمكنوا من تدمير الدولة السورية، وتفجير مجتمعها، وإجراء تغيير بنيوي خطير في الجغرافية الاجتماعية والوطنية عموماً لن تخرج منه سورية موحدة أرضاً وشعباً؛ هذا إذا كانت كذلك قد وقعت في مطبّ حرب أهلية دينية، وعرقية كما خطط لها الحلف الأمروصهيوني الذي وقف وراء حدوثية ما حدث ولا يزال بجيوشه يحاول أن يستبقي أي حالةِ وجودٍ له على الأرض السورية مع علمه بعدم شرعية هذا الوجود لكن الرياح لم تجرِ كما اشتهت سفن حلف العدوان على سورية بفضل العقل السوري الذي أمسك بزمام الداخل، وخفّف من تأثيرات الإدارة الخارجية شيئاً فشيئاً حتى وصلت هذه الأخيرة إلى أدنى مستوياتها إن كان على أرض الميدان ضد الوجود الإرهابي، أو كان على المستويين السياسي والاجتماعي الذي بدا عليه في بادئ الأمر حالة اضطراب واضحة في تحديد الموقف الوطني الصريح، وكأنّ بعض الفئات قد وقعت في صورة فقدان البوصلة إلى حينٍ حتى أسعفتها حركةُ الجيش التي أخذت تهزم الإرهابيين على كافة الجبهات، وبدت سورية تتجوهر سماتها الوطنية التاريخية التي هزمت كافة غزوات الاستعمار القديم، والحديث، وحُسم الشأن عند كل ذي نظر بأن هذا البلد عصيٌّ على الأخذ من الداخل كما كان دوماً عصيّاً على الأخذ من الخارج. ورغم ما كنا نشهده من تبديل، وتغيير في أشكال العدوان، وصيغ دعمه وتدعيمه برزت أمامنا مظاهر معتبرة للنسيج السوري في عيشه المشترك، وكيف تفاعل هذا النسيج اجتماعياً، ودينياً، وسياسياً بما حقق المظهر الوطني المتماسك، والبنية السورية لوطن الصمود والمقاومة، وبدأت الحرب على الإرهاب تتسارع حتى تمّ القضاء عليه في معظم الجغرافية السورية وحُوصِرَ في إدلب وعلى شريط محدود شرق الفرات.
والطبيعي في سياسات حلف العدوان الإرهابي على سورية حينما تفشل مشاريعهم أن يجروا الكثير من معادلات المعاوضة علّهم يخلقون بعض الوقائع التي يمكن تحويلها إلى أمرٍ واقعٍ. وقد راقبنا ببصيرة قادرة على التحليل كيف أديرت الحرب علينا من أجل الحرية لشعبنا، وقد تم احتلال جزء من أرضه. وكيف قاموا بتبشيرنا بالديمقراطية وقدّموا لنا جماعات قطع الرؤوس على الهوية. وكيف تحدثوا عن حرصهم على شعبنا وقاموا بتهجيره، وكيف أبدوا الحرص على إنقاذ سورية وجاؤوا لها بمشاريع التقسيم، والتقاسم وخرائطه. وكلما فرض الجيش السوري وحلفاؤه وقائع جديدة ميدانية على الأرض تعالت أصوات حلف العدوان بأن الحل السياسي هو الذي ينهي الأزمة السورية، واستحالة الحل العسكري. وكم بذل حلفاء أميركا والصهيونية من جهود لكي لا يسمحوا لشعبنا في سورية أن يستثمر انتصاره الميداني إلى جانب جيشه البطل ولكي لا يكون الحل السياسي الذي ما فتئوا يتحدثون عنه على ضوء وقائع الميدان المنتصرة. وبناء عليه تتواصل الجهود الدولية لخلق معادلات التشابك، والتعقيد في الوصول إلى الحل بهدفية عدم الوصول إليه إلا إذا كان يأتي لهم بالسياسة ما لم يتمكّنوا من أخذه بالحرب.
ووفق مقتضاه تواصلت جهود آستنة والدول الضامنة، وعقدت مؤتمرات في وارسو، وبروكسل، وميونيخ ولوأن المؤتمرات الثلاثة الأخيرة قد مررت تحت أهداف متعددة لكنها في نهاية المطاف تبحث على شكل دولي في العمل الجديد على القضية السورية بمحاولة خدمة إسرائيل أولاً. وقد رأينا في وارسو كيف جلس الأفرقاء العرب إلى جانب نتنياهو، وما صرّح به هذا الأخير عن أن العديد من الدول العربية أصبحت ترى إسرائيل صديقة، والعدو الأكيد لها هو إيران. وإلى جانب هذا تتواصل الجهود الأميركية على الأرض السورية بدعم الاتجاه الانفصالي لدى بعض الأكراد، وتحاول هذه الجهود أن تظهر مساعدتها لهم بالحرب على داعش، وبالوقت نفسه تنقل الدواعش إلى جهات غير معلومة. فأميركا في الوجود الاحتلالي غير الشرعي في سورية تقف مواقفها المتناقضة التاريخية فهي حليفة في حلف الأطلسي لأردوغان، وحليفة لمن يعادونه من الكرد السياسيين.
وهي تعلن عن خروج قواتها من سورية وتحضّر الأرض على المثلث السوري-الأردني-العراقي لقاعدةٍ برّية طويلة الأجل وبمخالفةٍ وقحة للقانون الدولي، ولميثاق الأمم المتحدة. ورغم إعلانها عن خروج قواتها من غرب الفرات، وشرقه لكنها تشجع أردوغان على فرض المنطقة الآمنة المزعومة، وتشجع الكرد الانفصاليين أيضاً. وتخلق بهذا الحال النزاع الجديد حول القوة العسكرية التي ستتكفّل بإدارة هذه المنطقة مدنياً بهدف إيجاد المدخل السببي المؤهل لفرض منطق التقسيم في سورية. وعلى صعيد المعارضات السورية في الخارج تلعب بهم أميركا وحلفاؤها تعطيلاً للوصول إلي أي شكل سيادي للحل السياسي في بلدنا.
ومن المعروف أن اللجنة الدستورية المزمعة، والدستور كذلك من صلاحية الأمم المتحدة أمر يتجاهل سيادة الشعب في سورية على أرضه، وحق تقرير مصيره عليها، واختيار أشكال نظامه السياسي. ومن هنا نقرأ الحالة الدولية التي ما زالت تدّعي حرصها على الوصول إلى الحل السياسي في سورية بأنها حالة فيها من العدوان على السيادة أكثر مما فيها من الحرص على سورية الدولة الوطنية الكاملة السيادة على أرضها، وشعبها. وينعكس هذا الحال على عودة المهجرين حيث تدّعي القوى العربية، والإقليمية التي أقامت المخيمات لهم بأن هؤلاء -أي المهجرين- لن يُسمح بعودتهم طالما أنهم سيصبحون رهائن بيدي النظام السوري. والدّجل هنا فظيعٌ حيث لا يرغب عملاء أميركا أن يعود مواطنو سورية إليها وهم يتجاهلون أن من عاد منهم إلى قراه، ومدنه قد عاد آمناً مطمئناً برعايةٍ كاملة من دولته الوطنية التي لم تتخلَّ عنه حتى في مخيّماته التي أُجبر على النزوح إليها. ومن تحليل آخر محاولات السياسة الأميركية والصهيونية وحلفائها وأدواتها في منطقتنا نرى أن المزيد من الحصار الاقتصادي لسورية بهدف تجويع الشعب واضح المقاصد، والغايات باعتباره يصبُّ في عملية الضّغوط المتزايدة لمزيدٍ من الإفقار لشرائح المجتمع، ومزيدٍ من تعطيل وظائف الدولة الاقتصادية، وذلك بهدف التقليل من حجم الطاقة السورية في جبهة المقاومة، ومنع الجيش العربي السوري من إنجاز معركة إدلب خاصة حين تُعرض المسألة بأنها يمكن أن تحلّ في إدلب دون الحرب. وعلى الطرف الآخر يُسمح لقسد بأن تُصفّي آخر جيوب داعش. وفي نهاية المطاف نستطيع القول: إن أشكال الاستهداف للدولة الوطنية السورية على مواقفها السيادية، وقرارها الوطني المستقل ما تزال في رأس المهام للغطرسة الصهيوأميركية؛ ومهما أبدت أميركا عبر بيدرسن المبعوث الأممي الجديد من الاستعداد لتسهيل مهمته نجد أن الوقائع التي تحاول خَلْقَها على الأرض مختلفة عن ذلك. وما يترتب على جماهير بلدنا – ولا سيما على ضوء حديث السيد الرئيس أمام المجالس المحلية – أن نعمل بجدية وطنية لكي ننتصر مع بعضنا، لا لكي ننتصر على بعضنا. وهذا ما يتطلب من السوريين قراءةً جديدةً لتحالفاتهم الوطنية على كافة المستويات تصليباً لإرادتهم الوطنية وموقفهم المقاوم ضد المحاولات التي تعمل على تحديد دستور لحياتهم الوطنية صُنِعَ في أميركا. ولما كانت الإرادة الوطنية السورية قد رفضت ما صنع في أميركا وخَدَمَ الصهيونية منذ تاريخٍ طويل يجب أن نجدّد العزم على أن نكون في صورتنا التاريخية دوماً.
د. فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 25-2-2019
الرقم: 16917