حاول الغرب المتصهين في القرن الماضي عبر النظام الدولي ثنائي القطبية أن يصدّر سياسة تدّعي الحرص على الحرية وحقوق الإنسان وهو بذلك يخفي أن الذي يطرحه هو ضد المصالح الاستغلالية لليبرالية ذاتها من منظور أن حقّ الحرية هو بالنتيجة حق الاختيار والمشاركة في صناعة القرار، فكيف للنظام الرأسمالي القائم على المزيد من استغلال جهد الإنسان والإنسانية أن يمنح الحرية على هذا النموذج.
لكن الاشتباك العالمي بين نظريتي عمل على صعيد الدولة، والمجتمع، والاقتصاد، وتمسّك الأولى بحق الاشتراكية والتشارك للإنسان والفرد وكذلك للشعب في طريقة بناء النظام السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي. والثانية تستبدل الشعب بالشركة لتكون صاحبة القرار الأخير في كل شأن رغم الوجود الصوري للمؤسسات الديمقراطية التي تُشعر ببناء مجتمع حقوق الإنسان. وقد شهدت البشرية في النصف الثاني من القرن العشرين كيف أن النظام الاشتراكي العالمي كان مع الحرية والتحرر وحق النضال الوطني المشروع من أجل التحرر من الاستعمار، وتحرير الأرض والاقتصاد، بينما النظام الرأسمالي العالمي كان مع إدامة احتلال أراضي الشعوب والأمم، وتجريف الثروات الوطنية لها، وإبقائها تحت السيطرة. وحين تمّت إزاحة النظام الاشتراكي العالمي اتضح للشعوب المناضلة من أجل التحرر كيف خسرت حليفها الدولي وانفرد بها القطب الوحيد المهيمن (أميركا) الذي تسيطر عليه الصهيونية وتحدّد له نماذجه في السياسة الدولية بما يخدم مصالح المشروع الصهيوني في الشرق الأوسط، وتجعله صاحب السيادة على الأمم دون أدنى مراعاة لسيادة الأمم على نفسها في أرضها وشعبها.
ومع ممارسة هذا الشكل الفاضح من السياسات الدولية المتغطرسة على الأمم يواصل النظام الغربي المتصهين الحديث عن حق الحرية المزعوم ويطالب الدول التي لا تسير تحت سيطرته بالحرية وحقوق الإنسان. ومن المعروف في أشكال السياسات الدولية أن أميركا تفرض التابعية على حلفائها أولاً قبل أن تحاول فرضها على الدول التي لا تسير في ركابها. وحين نحلل نتائج السياسة للرغب المتصهين نجد أن كافة المبادئ التي طرحها ومازال، حول أنسنة النظام الدولي، وحضارته، وحق تقرير المصير للأمم الأخرى ليست سوى أقنعة لكي يختفي خلفها ويواصل استغلاله ونهبه، وضبط الإيقاع العالمي للتطور بما يتوافق مع زيادة حصته من الاقتصاد الدولي، والتقسيم الدولي للعمل. وقد أصبح سياسة مكشوفة المرامي العدوانية فكلما شعرت أميركا بأن حالةً دولية أصبحت تقرّب أمم الأرض من الوصول إلى حقوقها في التنمية، والتحرر، والديمقراطية، وتحرير الأرض والإنسان تبتدع الذرائع التي تمكّنها من إثارة عدم الاستقرار في الأمم المعنية حتى تصل إلى إثارة الحروب الداخلية فيها، أو القيام بحرب خارجية عليها ليبقى الخطاب الحربي التدخلي هو الغالب في النمط السياسي لها.
وهذا ما قامت به على أرضنا العربية منذ سنوات ثمانٍ خلت. ومع دوام فشلها فيما خططت له، ومازالت تخطط نجد أن بعضاً من المجموعة العربية يواصل تابعيته لها مع العلم أنه يعرف حرصها على المشروع التهويدي لأرض فلسطين العربية أكبر من أي احترام للعلاقة مع الدول العربية التابعة لها. وحين تدخل حربه الإرهابية على بلدنا الغالي سورية عامها التاسع، وتكون الدولة الشرعية قد دحرت الإرهابيين الذين أدخلتهم أميركا إلى أرضنا وتحولوا إلى عدوٍّ داخلي مدجج بآخر منجزات التكنولوجيا الحربية الأميركية، والأوروبية لا نجدها حريصة على الحرب على الإرهاب بمقدار حرصها على دوام الحرب على الشعب السوري بالحصار، وبالقوات العسكرية لها ولحلفائها الأوروبيين. ورغم إعلان ترامب منذ نهاية العام الماضي19/12 على أنه سيسحب قواته كاملة من سورية لكنه لم يفعل لأنها -أي قواته- ضمانة الإرهابيين فكيف سيسحبها؟ ومن الغريب أن رئيس الائتلاف المعارض يطالب أميركا بزيادة تدخّلها بالشأن السوري، ولا يريد لها أن تخرج من بلادنا. ومن معاينة السياسات الغربية المتصهينة نلاحظ أن تحالف العدوان الإرهابي على سورية لا يريد أن ينهي حربه الإرهابية عليها فمن جهة عطّلوا جنيف بكامل قراراته، ولو أنهم يتحدثون عن القرار 2254. وكذلك يسعون لتعطيل آلية أستانا وسوتشي، وفك الصلة ما بين الدول الثلاث الضامنة، وإدخال الحل السياسي الذي يتحدثون عن ضرورته كذباً في إطار اللا حل طالما أنهم مهزومون على أرض الميدان، ولا يقبلون بأن تكون معطيات الميدان محدّدة لأول التفاوض حول الحل المزمع.
ومن هنا ننظر إلى اجتماع رؤساء أركان الجيوش في دمشق أي السوري والعراقي والإيراني واستقبال السيد الرئيس لهم، وكذلك استقباله لوزير الدفاع الروسي شويغو بالأهمية الكبيرة طالما أن أميركا لا تريد الحسم في معركة إدلب على الإرهاب، ولا تريد أن تترك القوى الكردية المرتهنة لها، ولا تريد أن يهاجمها أردوغان. وتريد المنطقة الآمنة على أن تكون عتبة تقسيم للجغرافيا السورية، وعليه فالحل السياسي السيادي الوطني الذي سيأتي سورياً-سورياً وبملكية كاملة كما تم إبلاغه لبيدرسن لن تسمح به أميركا، ونجد أن اللعب على المصطلحات هو ديدن السياسة الأميركية والمثال: قالوا عن استحالة الحسم العسكري في الحرب على الإرهاب في سورية، ولما صار ممكناً رفضوه. وقالوا عن الحل السياسي أنهم متحمسون له وحين ظهرت قوة أوراق الدولة الشرعية بانتصارات جيشها وحلفائه رفضوا الحل. وقالوا عن الحق السوري-السوري بإخراج الحل ليكون التمثيل للشعب من خارج الرقعة الوطنية؛ فكل الملايين لسورية داخل سورية لا تملك معنى سوري-سوري، بل المعارضات هي صاحبة الملكية بهذا الشأن، وقد رأينا ما الذي يتصرفونه أي (التحالف الإرهابي على سورية) في تشكيل اللجنة الدستورية.
إذاً؛ لم تعد أحابيلهم تنطلي، ولم يعد دعمهم للإرهاب مستوراً، ومن المضحك أن نسمع من بيدرسون المبعوث الأممي الخاص بشأن سورية عن وجود خلايا نائمة لداعش في سورية والعراق تزيد على العشرين ألفاً، وبأن أميركا سوف تستمر في وجودها العسكري حتى تقضي على تفكير تنظيم داعش. فهل من دَجَلٍ سياسي مفضوح أكثر من هكذا دجل حيث إن الوجود العسكري الأطلسي على الأرض السورية ما كان إلا لمنع الجيش العربي السوري وحلفائه من القضاء على الإرهاب، ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت أميركا ومعها الأطلسيون قد نسّقوا مع الدولة الشرعية السورية المنتصرة في هذا المجال. وما لم يعد بحاجة إلى انتظار هذا الرّد الداخلي السوري الذي بدأ بإجماع رؤساء الأركان الذين نوهنا عنه، ولقاء وزير الدفاع الروسي مع السيد الرئيس، والاستعدادات الوطنية الأخرى المصاحبة التي تمتّن وحدة الشعب الوطنية، ودعمه لجيشه ودولته حتى تُفرض أوراق التفاوض على وقائع الميدان، ويأتي الحل السياسي الوطني السيادي بإرادة الشعب داخل سورية، وليس بإرادة من يدّعون تمثيله وهم أدوات بالكونترول الأمروصهيوني لن يأتوا لنا بأي حل إلا بما يخدم المصالح الأمروصهيو أطلسية وحسب.
د. فايز عز الدين
التاريخ: الأحد 25-3-2019
الرقم: 16939