رغم الشعارات البراقة المتصلة بالحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تتشدق بها على المنابر الدولية والأممية وفي إعلامها المضلل تبقى الولايات المتحدة الأميركية رمزاً للطغيان والغطرسة والعدوان، ومثالاً رديئاً في الالتزام بالقانون الدولي وحقوق الشعوب والدول، فعندما تتعارض مصالحها الاستعمارية والتوسعية وأجنداتها التخريبية مع أي قضية إنسانية عادلة تسارع إلى معاداتها وإلحاق الأذى بكل المؤمنين والمتمسكين بها والمدافعين عنها، ولعل الأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى أو يتسع لها مقال أو دراسة، ولو اقتصرنا فقط على الفترة التي شغلها دونالد ترامب في البيت الأبيض كرئيس لهذه الإمبراطورية الخارجة على الأعراف والقانون الدولي سنخرج بحصيلة صادمة من القرارات والسلوكيات التي أثارت الرأي العام العالمي وأحدثت شرخاً كبيراً في العلاقات الدولية، بالنظر لما ألحقته من أضرار بالغة بالسلم والأمن الدوليين، ما يعزز الاستنتاج والقناعة التي يذهب إليها معظم المتابعين للسياسة الأميركية بأن هذه الدولة هي عدوة الشعوب بامتياز، ففي تاريخها القصير نسبياً مئات جرائم إبادة بحق البشرية بدءاً بالهنود الحمر سكان أميركا الأصليين وليس انتهاء بما فعلته في أفغانستان والعراق وسورية واليمن وليبيا في الأعوام الماضية، وقبل ذلك في اليابان وفيتنام ومناطق أخرى، ناهيك بآلاف جرائم الاغتيال الغامضة والمعلنة التي تنفذها أجهزة استخباراتها وعملائهم في أرجاء الكرة الأرضية.
من المعروف أن الولايات المتحدة تمكنت من بناء قوة عسكرية هائلة بين الحربين العالميتين جمعت فيها أحدث وأعنف وسائل القتل والتدمير، كما أحكمت هيمنتها على الاقتصاد والتجارة العالميين وأصبحت عملتها تتحكم بمعظم المبادلات المالية والتجارية العالمية إضافة إلى نظام نقدي مرتبط بمعظم البنوك والمصارف الدولية، ما يتيح لها هامش واسع من الحروب المتنوعة التي تبدأ بالمعارك العسكرية والحروب التقليدية وصولاً إلى الحروب التجارية والاقتصادية التي تستخدمها هذه الأيام ضد العديد من الدول والشعوب بهدف فرض أجنداتها واملاءاتها ورسم مصير العالم وفق أطماعها ومشاريعها الخاصة.
لا يشك أي مراقب منصف بأن أميركا اليوم تختصر الإرهاب والإفساد والإجرام والمكر والكذب والخداع والفجور والقتل والاحتلال ونهب ثروات الشعوب والرغبة في مصادرة حريتها وسيادتها والتلاعب بمصيرها ومستقبلها، بالإضافة إلى تجويع وإبادة المستضعفين في الأرض، فقبل غزو العراق عام 2003 مارست الولايات المتحدة حصاراً خانقاً لأكثر من عشر سنوات، ألحق أشد الضرر بالشعب العراقي وكان من نتيجته أن توفي على إثره مئات آلاف الأطفال في العراق بسبب نقص الحليب والأدوية والأغذية والمواد الأساسية، وحين لم يفلح الحصار في الهيمنة على ثروات العراق وتركيع شعبه شنت واشنطن حربها المجرمة ضده فكان الموت والدمار والفوضى والإرهاب، ومن يريد أن يعرف نتائج هذا الاحتلال ستصدمه الحصيلة حيث تم تشريد نصف الشعب العراقي وإبادة أكثر من مليون من أبنائه وتدمير بنيته التحتية ومؤسساته، ولم ينسحب الأميركيون من العراق قبل أن يشرفوا بأنفسهم على إنشاء أعنف تنظيم إرهابي عرفه التاريخ البشري أي «تنظيم داعش» الذي كانت مهمته الأصلية استكمال ما عجز عنه الاحتلال الأميركي أي تمزيق وحدة العراق وإغراقه بالموت والدمار والفوضى والفتنة لسنوات طويلة قادمة.
أما في سورية فقد بدأت الولايات المتحدة بدعم الارهاب التكفيري تحت شعار «مساندة ودعم» الشعب السوري، ومن ثم انتقلت إلى التدخل والعدوان المباشر والضغط السياسي، وعندما فشلت هذه الأساليب كلها في إخضاع سورية لمشيئتها ذهبت إلى سياسة الحصار الاقتصادي الخانق بهدف إضعاف وتركيع الشعب الذي ساند دولته وجيشه في المعركة على الارهاب الذي جاءت به، ورفض «دعمها» المزعوم له وتدخلها الفظ في شؤونه الداخلية واحتلالها لأجزاء من أرضه، وتمسّك بسيادته وحرية قراره المستقل، ظناً منها أن هذه السياسة المجرمة تستطيع تحقيق ما عجز عنه الارهاب والعدوان العسكري المباشر والضغط السياسي والحملات الإعلامية الرخيصة.
وأما في اليمن الذي يشهد أخطر أزمة إنسانية شهدها التاريخ فإن الولايات المتحدة تقف إلى جانب تحالف العدوان وتمده بكل وسائل القتل والتدمير والإبادة وتشجعه على المزيد وتحميه من المساءلة القانونية عن جرائمه وانتهاكاته غير عابئة بآلاف القتلى والجرحى وملايين الجياع والمرضى والمشردين، ثم يخرج إلينا من يتحدث عن السياسة الأميركية في إعلامه بانبهار وكأن المجرم ترامب وعصابته هم رسل خير ومحبة وسلام للإنسانية جمعاء..؟!
لم يخجل الأميركيون من إعلان مشروعهم في منطقتنا وهو الفوضى، وهاهو ترامب يعيد إنتاج هذا المشروع المتهالك بصورة جديدة عبر سياسة الحصار الاقتصادي والعقوبات ومحاولة فرض القرار الأميركي الأرعن على الأمم المتحدة والدول والشعوب الأخرى دون استثناء، ومن المؤكد أن مثل هذه السياسة الأميركية إذا تواصلت ستلحق أضراراً كبيرة بشعوب العالم ودوله وقد تؤسس لحروب جديدة مدمرة على مستوى المنطقة والعالم ما يستدعي صحوة أممية سريعة لفرملة هذا الجنوح الأميركي المدمر باتجاه الفوضى والخراب، فالعالم يحتاج اليوم إلى أمثال مانديلا وغاندي وكاسترو وغيفارا لا إلى أمثال هتلر وترامب وموسوليني ونتنياهو.؟!
عبد الحليم سعود
التاريخ: الجمعة 12-4-2019
الرقم: 16955