جمهورية البياض حكاية في عشق المدن

 

 

ملحق ثقافي..د. محمود شاهين :

يبحث كتاب (في جمهوريّة البياض: المدينة- التراث- المرأة) لمؤلفته د. بغداد عبد المنعم، في علاقة المدينة بالتراث غير المادي، وبالمرأة، من خلال جملة من المرافق والموضوعات اللصيقة بالمدينة كالبيت، والشرفات، والمتحف، والساحة، حيث في كل المدن العربيّة كانت ثمة ساحة أو ساحات شهيرة، ولكل ساحة في مدينة عقدها من الحكايات، ونغمتها التي كانت منضمة إلى الهارموني الناظم لكل تكوينات المدينة، بعناصرها المعماريّة، وأصواتها، وروائحها. ولقد حملت بعض الساحات (كما يُشير الكتاب) أحداثاً حوّلتها إلى مكان أثير في الذاكرة الجماعيّة، بل والذاكرة الوطنيّة والقوميّة، كساحة المرجة الدمشقيّة، وساحة سعد الله الجابري الحلبيّة. وثمة ساحات غطاها الحزن الكبير كساحة الميدان في بغداد، في بداية شارع الرشيد، حيث شكّلت المقاهي البغداديّة قديمها وجديدها، طقساً حانياً ضاجاً بالمثقفين وأحاديثهم وحواراتهم. وساحة الأقصى المقدسيّة، أكثر الساحات حضوراً في المشهد العربي والعالمي.

والحقيقة، حين تتعتق المدن، تروح فيها السنون طولاً وعرضاً ووجهاً، فتغدو صافية، وبعيدة، فلا تذهب أضواؤها أبداً. وكذلك لا تذهب كلماتها، لأنها لا ترتجل الكلمات ارتجالاً، وهي لاحقاً لم ترتجل التكوينات والملامح. أما المدينة العربيّة القديمة (بحسب الكتاب) فقد لازمت الطبيعة ملازمة العشق والتوءمة. فلم تكن أبوابها تقف بصلفها وغرورها وبحجارتها وحدها. ولا تقف بأبعادها الهندسيّة وحدها، ولا بإصرارها التاريخي وحده، بل كان ثمة شجرة عريقة، قادمة من أعماق الأرض تقف إلى جانبها، تُقاربها في الارتفاع، بل تزيد عليها أحياناً بتمدداتها وعناقاتها الحنونة المستمرة لوقفة أبواب المدينة المهيبة الدائمة.

 

 

وفي إشارة إلى العلاقة الخاصة التي نشأت بين (خير الدين الأسدي) ومدينته (حلب) يؤكد الكتاب بأنه حين يحاول رجل أن يعشق مدينة حق العشق، فإنه يفنى فيها دون أن ينتهي أبداً. تتجلى إليه بكليتها وبتفاصيلها، ويذوب فيها، فتنتشي إليه، وتدرك أنه عاشقها العتيد، ذلك العاشق المميز هو (الأسدي) وتلك المدينة التي عذبته بعض العذاب هي (حلب) وأما الثقافة العشقيّة بينهما، فهي حالة معقدة ومتبادلة في العمق. جدلية في معظم تفاصيلها، كان هو (رجل-مدينة) وكانت هي (مدينة لرجل).
يرى الكتاب بأنه تقريباً وتاريخياً، كان لكل مدينة شهرزادها. أي تلك المرأة المتمردة غير التقليديّة التي تحيل بتمردها ومقاومتها إلى مرجعيتها الثقافيّة والنفسيّة، وإلى مخزونها الأدبي والتربوي. فما دامت هناك امرأة تتكلم، استمرت الحياة، واتسعت إلى حدود الفجر الذي امتد إلى ما بعد الليلة الألف. وما دامت هناك ليلة بعد ألف ليلة، فإن الأمل مزروع، وذلك الرجل الصعب الصلب (شهريار) ما لبث أن دخل في حديث شهرزاد لحظة بعد لحظة، حتى غدت في سمعه وفي عينه، وفي كيانه الحقيقي الوجداني التام. وهكذا ما كانت شهرزاد امرأة واحدة، في زمن واحد. وبحسب الكتاب: المدينة أنثى تنتابها (دورة الحياة) في كل أبعادها، فتعطيها التبدل المستمر، والاستعداد للولادة، فهي مطلقاً (أي المدينة) لم تتشكل فقط من مجموعات من الأبنية والشوارع، ولا من مجرد علاقات محسوبة على موازين المصالح الضيقة، والتي ظلت تضيق أكثر يوماً بعد يوم حتى راغت في مستنقع الفساد.
حين العبور من درب ضيق (بحسب الكتاب) ينساب إلى صدر المدينة القديمة، تُداهمك الروائح الآسرة من أزمنة البيت العربي. رائحة السرو والليمون والدوالي، ورائحة الماء الكثيف الجاثي في مركز البيت، وروائح الطعام المصنوع بأنفاسها. حين تقترب من هذا السر العذب، اعلم أن تلك الغابة من روائح هي الأنثى، وأن تلك الحجارة الخارجيّة هي ثوبها المُحكم الجمال والحشمة، ومن ورائه تلك الجدليات التي تُحاكيها، والتي صُنعت لها عبر التاريخ.

 

 

يُضيف الكتاب مؤكداً، بأن العناصر المعماريّة للبيت العربي ليست إلا التجسيد المادي والروحي للتفاعلات المجتمعيّة القيميّة لأزمنة طوال، وبأن حصانة البيت المعماريّة تبدأ من الباب. قد يكون الباب عنصراً معمارياً متكرراً في كل العالم، لكن لباب البيت العربي بُعدٌ أنثوي. فهذا العنصر الاتصالي الذي يحدد وينظم العبور من الخارج النسبي (الدرب أو المدينة) إلى الداخل، فهذه الخصوصيّة، لهذا التكوين ذي الفاعليّة الداخليّة، مصدرها المرأة وليس الرجل، ولعل هذا الأمر بالذات، صدرته العرب من ضمن الخطوط الأخلاقيّة الأولى، فقالت عن المرأة: بيت.
من جانب آخر، لم تعد المدينة العربيّة تمتلك أزمنتها، فالقديم قديم بحكم التاريخيّة وحتميتها، والجديد جديد بحكم الهيمنة العولميّة على الذائقة المعماريّة والفنيّة وعلى السوق باعتباره مصدراً لمواد البناء المستخدمة، ومصدراً للموضات المعماريّة المرتبطة بها. إذاً لم يتبدَ للمدينة العربيّة (الجديدة) هويّة بعد. هناك فقط خاتم عمومي ينطبع على كل مدن العالم (الحديثة)، دلالته الوحيدة بناء هائل الارتفاع، مُرتص الطوابق، مغروز كالسهم في صدر الأرض، وشاهق بقطعه المتكررة شاقولياً، والطرق الإسفلتيّة تتكاثف سابحة فوق بعضها بعضاً، كل ذلك يكاد أن يكون نسخاً متكررة في العالم، وشيئاً فشيئاً، بل سريعاً سريعاً، يتم التحوّل الصاعق في كل التكوينات المعماريّة. في لحظات من التاريخ الحديث، ولد مفهوم (الحداثة المعماريّة) التي اشتعلت في الغرب بين تيارين، فكيف كانت الحالة المعماريّة في المدينة العربيّة القديمة والجديدة؟

 

لقد أدت التحولات الصاعقة إلى عمليات بتر حدثت لم يكن من داعٍ حقيقي لها، لم تتناول الأطراف، بل امتدت إلى القلب. ولم تصنع قلباً جديداً، ذلك أن القلب في المدينة العربيّة عضو شديد التعتيق والضخ، عالي الإنتاجيّة، ليس بالمعنى التسويقي المباشر، إنما بالمعنى الحضاري بعيد المدى. من جانب آخر، ثمة حياة ما زالت تتحاور في أدائها وأصواتها، وتتسرب في أصوات السوق وضجيجه ونداءاته. ففي المحصلة تسمع ذلك الحنين العميق قادماً من قلبها… قلب المدينة.
وتحت عنوان (همسٌ لمدينة الحب) أشارت مؤلفة الكتاب إلى أن مدينتها تذوب في ظل القهوة. تعتلي مقعدها الأثير قرب الماء، وبعيداً آلاف المسافات كانت الصحراء تبكي، فهي خاوية من الانتظار. لم يكن للقهوة من مسافة. روائحها تتأرجح في صفحات المكان، ننغمر فيها ومن طعمها الإشكالي الواثق، تصعد أوراقنا منذ ما قبل التاريخ نكتب أشياء لم تُكتب. سطعت القهوة وتناثرت حيث تعطي تناقضاتها ومرارتها العامة والتي تخفي طيفاً كاملاً من الأبخرة والروائح وعطور سوق عتيق. حين تدخل اللام بين (حاء) حلب و(بائها) تصمت الوردات وتكف عن الكتابة، فهل تدخل حلب في يوم ما جمهورية الورد؟ لم يكن لأي ورد في العالم رائحة آسرة قادمة من التاريخ مثلما لوردات حلب! أخذ الزمن حروفها وبقيت اللام قائمة بجدارة بين الحاء والباء.
نمر على مدن ومدن، ففي حدائق الأرض تنبسط الوردات أميرات أمام إمبراطوريّة القلعة والأبواب. وردات (فيينا) و(الدانوب الأزرق) و(إيفل) وهندسته العابرة من العشب إلى الغيوم يعرفون تماماً ذلك العطر البيتي المميز القادم من شرق المتوسط، حاملاً كل المدن التي لا تُنسى. مدن لها رائحة الطين والقهوة، ولها رائحة الارتفاع فوق السحاب من جنب الصحراء، معجونة بأنهار طوال، ومياه صابرة لا تنتهي.
حكاية معتقة في جدل عينيها، في سوادهما الصاحي غفت أبجديات، توارت بوقار، وغفت الحكاية. في حلب تقف (اللام) بتوازن دقيق بين الحاء الباء، تُشرع سورها العالي ورغبتها الرافضة (لا) فترتحل أبوابها العالية القديمة، تحمل معها عبورها وعابريها، تُسدل ستار الرفض يبدو دهرياً.

التاريخ: 25-6 -2019
رقم العدد : 17008

 

آخر الأخبار
جولة ثانية من المفاوضات الأمريكية- الإيرانية في روما أردوغان: إسرائيل لا تريد السلام والاستقرار في المنطقة جنبلاط: هناك احتضان عربي للقيادة السورية واقع مائي صعب خلال الصيف المقبل.. والتوعية مفتاح الحل برسم وزارة التربية النهوض بالقطاع الزراعي بالتعاون مع "أكساد".. الخبيرة الشماط لـ"الثورة": استنباط أصناف هامة من القمح ... بقيمة 2.9مليون دولار.. اUNDP توقع اتفاقية مع 4 بنوك للتمويل الأصغر في سوريا حمص.. حملة شفاء مستمرة في تقديم خدماتها الطبية د. خلوف: نعاني نقصاً في الاختصاصات والأجهزة الطبية ا... إزالة مخالفات مياه في جبلة وصيانة محطات الضخ  الألغام تهدد عمال الإعمار والمدنيين في سوريا شهادة مروعة توثق إجرام النظام الأسدي  " حفار القبور " :  وحشية يفوق استيعابها طاقة البشر  تفقد واقع واحتياجات محطات المياه بريف دير الزور الشرقي درعا.. إنارة طرقات بالطاقة الشمسية اللاذقية.. تأهيل شبكات كهرباء وتركيب محولات تفعيل خدمة التنظير في مستشفى طرطوس الوطني طرطوس.. صيانة وإزالة إشغالات مخالفة ومتابعة الخدمات بيان خاص لحفظ الأمن في بصرى الشام سفير فلسطين لدى سوريا: عباس يزور دمشق غدا ويلتقي الشرع تأهيل المستشفى الجامعي في حماة درعا.. مكافحة حشرة "السونة"