مصحات لعلاج (إدمان الانترنت)، بل عيادات لإعادة (التأهيل الرقمي)، لا بل عيادات لإعادة (برمجة الأطفال)، بل إنها مصحات لتقويم (السلوك).. كل هذه الجهات بتسمياتها المختلفة أصبحت موجودة في بلدان كثيرة، وهي تستقبل مرضاها، وتعدهم بالشفاء التام من إدمان رقمي بات يعتبر مرضاً معدياً شأنه شأن أي مرضٍ سارٍ ينتشر بين الناس.
ترى هل كانت الرقمية على علم مسبق بأنها ذات يوم ستتحول إلى حالة مرضية، أم إن مبالغات بعض المستخدمين أوصلت إلى ما عليه الحال؟.. بل هل كان في حساب شركات التكنولوجيا التي خرجت من وادي السليكون أنها بعد عقود ستتغول في هيمنتها، ويصبح تأثيرها هو السلاح الأقوى، والأمضى؟
مع إغراء فتح نوافذ الافتراض على مساحات مختلفة وشاسعة حول كل ما يخطر في الأذهان من موضوعات، لم تعد فكرة الانفصال عن شبكة المعلومات واردة، بل بالعكس إذ أصبح الارتباط بها أشبه ما يكون بالارتباط (الوالدي) الذي ليس من السهل فصمه.. وخطوة وراء خطوة وصل الأمر إلى حالات من (الإدمان) تكاد تشبه أي حالة تطلق عليها هذه التسمية.
وكما البحر الذي تسحب أمواجه مَنْ ينزل إليه لتأخذه بعيداً نحو الأعماق كذلك فعلت تلك الشبكة الذكية عبر الأجهزة الذكية ليتسمر أمامها مَنْ يدخل إليها ساعات وساعات، وهي تجذبه إلى لجتها أكثر فأكثر فإذا به يصاب بدوار إدمانها إلى درجة باتت تستوجب معها العلاج.
وليقول العلم رأيه، وكلمته بعد أن قام الباحثون، والخبراء بالرصد، وليدرسوا بعد ذلك حالة الإدمان الرقمي هذه، ولتكون النتيجة أن الأمر أصبح يحتاج إلى عيادات خاصة هي على غرار المعسكرات، تعمل على تخليص مَنْ يلجأ إليها من إصابته بما يسمونه (السموم الرقمية)، من خلال الامتناع عن التعامل مع أيٍ من الأجهزة الالكترونية خلال مدة العلاج حتى يعاد بناء العلاقة مع شبكة المعلومات، ومواقع التواصل الاجتماعي على أسس جديدة لا يكون فيها إفراط، ولا تفريط.. وخاصة أن أكثر من نصف سكان العالم الذي يُعد بالمليارات قد وقعوا في حبال الشبكة العنكبوتية، ولو بنسب متفاوتة.
وها هي بعض الدول قد أقرت أن الإفراط في استخدام (الانترنت) يؤدي إلى تغيرات في الدماغ، ويؤثر سلباً على الصحة النفسية لاستغراق المستخدمين في فضاء غير حقيقي، وصنفت الإدمان الرقمي في خانة الصحة العامة لمواطنيها مما يتوجب معه فتح أبواب مشافيها العامة لتأمين العلاج اللازم في خطوة جديدة تنفتح على متغيرات عصر جديد.
والأهل يقولون إنهم باتوا يشعرون بالقلق على أبنائهم لما يتعرضون له من حالات تشويه الصورة عن الذات، والعنف، والاكتئاب أيضاً، والانفصال عن الأسرة، وضعف التركيز، والعزلة، وربما التسرب من المدرسة لتغير أنماط السلوك نتيجة التصاقهم بتلك الأجهزة الذكية لوقت طويل، وقد أصبحوا أسرى لديها.. بل إن الأمر أصبح بحاجة إلى إعادة بناء للعلاقة مع التكنولوجيا بحيث نستطيع أن نستخدمها لصالحنا دون أن تستخدمنا هي لصالحها، اللهم إذا ما كانت الحال قابلة للتصحيح، أو العلاج.
وإذا كان الكبار رغم إدراكهم للمشكلة، ووعيهم بها قد لا ينجو جميعهم بأنفسهم من إدمانهم هذا بعد أن استلبهم، وسيطر على حياتهم، فإن الأمل بنجاة الصغار لا يزال قائماً لأننا ما نزال نملك مساحة من السيطرة في نطاق التربية، وذلك عندما تتضافر الجهود العامة، والخاصة ليس للانفصال عن واقع قائم بل لتهذيب، كما تقويم أسلوب التعامل مع الوسائل الحديثة بشكل واعٍ، وصحي لأن حسن الاستخدام سيعود بالفائدة المرجوة منه.. فموسوعة العالم التي تحمل جواباً لكل سؤال أصبحت ضرورية لتطوير الذات، وتحصيل المعلومات، واكتساب مزيد من تجارب الحياة.
وبالعودة إلى الكبار.. فحواسيبنا، كما هواتفنا الذكية تحتاج دليلاً إرشادياً لنا لحسن الاستخدام، شأنها شأن أي جهاز نشتريه، ونقرأ في دليله عن كيفية تشغيله.. وأسأل: هل نستطيع أنت، أو أنا أن نمضي يوماً دون تصفح ما اعتدنا عليه؟ أنت تسأل نفسك.. وأنا عن نفسي أقول: ربما.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 13-9-2019
الرقم: 17074