لطالما كانت القراءة تحملك على جناح الخيال إلى أي مكان من هذا الكون، إنها وحدها التي تجعلك تتخيل نفسك بطل أحلامك، وما تريد أن تكون عليه.. إنها وحدها القادرة على أن تحوي أحزانك وأفراحك.. وهي التي بإمكانها فوق ذلك أن تنقذك.
ما من كاتب، أو أديب، أو شاعر، أو حتى باحث إلا ويفكر بقارئه بينما سطور صفحاته تمتلئ بالعبارات، والكلمات.. وقد يجلس في موقع المتلقي محاكماً نصه، ليعيد تقييم ما كتب، ويتوقع مدى تأثيره على مَنْ سيقرؤه.. وغايات التأثير تختلف من عمل لآخر، ومن كاتب لآخر. إلا أن العنصر الأهم في هذه المعادلة هو القارئ.. فكيف هو العثور عليه، وجذبه إلى النص؟ بل ما قيمة نص لا قارئ له يمنحه وجوده؟
ونحن نتذمر دوماً من أن الناس باتوا لا يقرؤون.. بل إنهم يفعلون، ويفعلون.. ولكن كلٌ ضمن اهتماماته.. قد تكون الموضوعات سطحية بما يكفي لئلا نعتبر صاحبها قارئاً.. أو أنها لا تجذب اهتمام إلا نسبة ضئيلة من القراء.. وأغلب ما يُقرأ الآن أياً كان أصبح من خلال شبكة معلومات.
وكما أن هناك كاتباً يستفز القارئ لأن يتفاعل مع نصه سلباً، أو إيجاباً، فإن على الطرف الآخر قارئ قابل لذلك، وآخر على النقيض من سابقه مهما تفوق النص في أدائه لغايته.. ولتظل هوية القارئ في محط سؤال.
وها قد أصبحنا في زمن القراءة الصامتة أكثر من التي تتحدث وهي تلك التي تتحقق على صفحات الافتراض، ليصبح هذا النمط من القراء أكثر وضوحاً تبعاً لما هو متاح من مساحة للتفاعل.. والقراء في هذه الحال منقسمون إلى فريقين الأول والذي له النصيب الأقل هو مَنْ يبدي استحسانه أو استياءه، وأحياناً هجومه ولو بألفاظ غير لائقة يوجهها لمن كتب قبل أن يتوجه بها إلى النص ذاته في محاكمته، إلا أنه على الأقل يعبر عن الشعور.. وفريق آخر وهو يمثل الغالبية يؤثر صمته حيال ما قرأ دون أن يبدي تجاهه انفعالاً، أو أي رد فعل من أي نوع، ولذلك طبعاً أسباب عديدة لا مجال للخوض فيها.
ولنجد أنفسنا في هذه الحال أمام ذلك القارئ الصامت، ولا أعنيه هنا بالمعنى الأدبي النقدي بل إنه التوصيف، في وقت تُغيّر فيه تقنيات الكتابة من نفسها سعياً وراء المتلقي هذا الذي سيقوم باستقبال النص ليتماهى معه، ومن ثم يقوم بتأويله، وتفسيره، ليسقط عليه المعنى في المحصلة.
ولعل أزمة القارئ الصامت قد تجلت الآن بوضوح مع النهايات المفتوحة في القص والتي تحتمل أكثر من فكرة لنهاية النص باشتراك القراء في صياغتها كلٌ حسب تأويله، وتحليله، وفهمه.. والنشر الإلكتروني يتيح تفاعلاً مباشراً، وحياً حيث يتواصل القراء مع كتابهم ليعبروا عن أفكارهم، وليجربوا أقلامهم بحرية.. لكن قلة من يفعلون.
أما التفاعل مع النص فهو أمر على درجة من الأهمية، لأنه هو الذي يجعل منه كائناً حياً له حيز من الوجود.. وما إبداء الرأي إلا سبباً ينتج عنه الحوار، وبالحوار تتفتح الأفكار، وأهمية القارئ لا تقل عن أهمية النص بينما أصبحت تتوفر مساحة واسعة لأن يختار من يقرأ ما يعجبه، ويثير اهتمامه، ويثري فكره بآن.
لكن قارئنا الذي يدخل من نافذة الالكترون لينظر، ويقرأ، ثم ينسحب بهدوء لا يعلن عن حضوره، ويؤثر أن يظل صامتاً، ولا يٌظهر موقفاً حيال قراءاته لعله لا يدرك أن عليه أن يفعل وأن يعبر عمَ تبادر إلى ذهنه، حسب رأي الكاتب الألماني الشهير(هيرمان هيسه) الذي يقول: (كما تتخذ موقفاً تجاه أي شيء في العالم، فمن الممكن أن تتخذ موقفاً ما تجاه الكتاب).. لتكون القراءة بالتالي مرتكز انطلاق له. وهذا الصامت الذي يترك مياه البحيرة ساكنة لا حراك فيها لعله لم يعرف ـ وحسب رأي هيسه أيضاً ـ أنه: (يمكن للأفكار الأكثر بهجة وإيجابية أن تنبع من كلمة لا صلة لها بالموضوع تماماً).
فكم من الكلمات، وكم من الأفكار تاهت في دائرة الصمت لتذوب في بئر النسيان، بينما كان بمقدورها أن تتحول إلى براعم تزهر في حديقة الأفكار.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 4-10-2019
الرقم: 17090