عودة إلى ما يقال بين حين وآخر عن أنه قد كتب عن المراحل السابقة في تاريخ الفن التشكيلي السوري ما يكفي، وصار لزاماً الكتابة عن تجاربه المعاصرة، وحاله الراهن، رغم انعدام التعارض بين هذه الكتابة وتلك، ذلك أن مراحل فننا التشكيلي متكاملة ومتتابعة، وأحياناً متداخلة.
إذا وضعنا جانباً حقيقة أن الكتابة عن الفنون الأقدم في العالم لم تتوقف يوماً رغم الكم الهائل من النصوص المتوفرة عنها بحكم ظهور زوايا رؤية جديدة، وأحياناً معلومات جديدة. فإننا في واقع الحال لم ننجز بعد توثيق تاريخنا التشكيلي الحديث، وتنقيته من الأخطاء بتنوع أشكالها، بما في ذلك غياب تجارب عنه، أو سرد معلومات غير دقيقة، أو خاطئة كلياً. وهو الأمر الذي يطول حتى أكثر التجارب أهمية كما هو حال تجربة الفنان توفيق طارق رائد الفن التشكيلي السوري المعاصر، الذي تتناقض المعلومات حول سيرة حياته، وحتى عن موقعه الريادي، ففي إحدى الإصدارات الثقافية المحلية عرضت لوحة (السيد الزنانيري) لـ (داوود القرم) على أنها أقدم لوحة سورية، وعلى هذا الأساس اعتبر (داوود القرم) أقدم فنان سوري، وهذا الأمر يجافي الحقيقة تماماً، لأن هناك فرقاً كبيراً بين اعتبار لوحة (السيد الزنانيري) أقدم لوحة سورية، وبين كونها أقدم لوحة في فرع الفن الحديث، فتلك اللوحة، وإن كانت تصور شخصية سورية فهي ليست لوحة سورية، وإلا لكنا اعتبرنا كل لوحات الاستشراق التي رسمها فنانون أوربيون عن سوريه هي لوحات سورية. و (داوود القرم) فنان لبناني وليس فناناً سورياً، ولا يغير من هذه الحقيقة التبرير بأن لبنان وسورية كانا في ذلك الوقت ضمن كيان سياسي واحد، لأن الفن التشكيلي في كلٍ من البلدين تطور بمعزل عن الآخر.
وقد اعتُبر (داوود القرم) رائد فن التصوير اللبناني، وكان له حضور مهم في هذا الفن، سواء من خلال لوحاته، أم من خلال نقل خبرته ومعارفه للأجيال التالية، ولم يكن له بالمقابل أي حضور يُذكر في الفن السوري، حيث لم يتجاوز دوره فيه دور الفنان الزائر، ولا نعرف من (لوحاته السورية) سوى لوحة (السيد الزنانيري). وهي في هذا المفهوم لا تختلف عن لوحة (توفيق طارق) المعنونة باسم (وجه من بيروت)، المحفوظة في المتحف الوطني بدمشق، والتي صورها عام 1938، فهذه اللوحة، وسواها من اللوحات التي صورها (توفيق طارق) في لبنان، كذلك إقامته الطويلة في مدينة بيروت ووفاته فيها عام 1940، لم تبرر لأي من الكتابات عن تاريخ الفن التشكيلي اللبناني اعتبار (توفيق طارق) من رواده، أو من أحد أسمائه اللامعة، إذ لم تكن له مساهمة مؤثرة في الحياة التشكيلية اللبنانية، بخلاف ما كان عليه حاله في مثيلتها السورية. ولا يغير من هذه الحقيقة كل أعماله في لبنان، بما فيها لوحته (حريق في صيدا) التي تصور الواقعة التاريخية لقيام الرومان بإحراق مدينة صيدا اللبنانية على شاطئ المتوسط في القرن الأول الميلادي، وقد نفذها أواخر ثلاثينيات القرن الماضي بأقلام التلوين الخشبية، وشارك بها في مسابقة أعلنت أعلنتها (اليونيسكو)، وقد أصدرت دار نشر ألمانية مطلع عام 1992 بطاقة بريدية تحمل صورتها.
وللحديث تتمة..
سعد القاسم
www.facebook.com/saad.alkassem
التاريخ: الثلاثاء 29- 10-2019
رقم العدد : 17109