أبداً.. لم تكن هكذا المدينة.. ولم يكن هكذا الناس..ماذا تغير لا أعرف.. هل نحن الذين تغيرنا فصرنا غرباء وأعداء، لا همَّ لنا سوى جمع المال مهما كانت الوسائل، فالغايات أكبر من أي رادع، لأن المال (في زمن المال) هو الذي يعطي القوة والسلطة والقيمة ويجعل الناس تهابك ولو كنت قاطع طريق.
لكن أحياناً أعاكس الواقع الذي ينداح أمامي وأقول: لا.. الوضع لم يصل إلى هذا السوء، ربما أرى الأمور من منظاري وحدي، وربما تغيرت الدنيا والدنيا في قريتي لم تتغير.. إذ ما زالت القرية على حالها تزرع الخضار والبقوليات والأشجار المثمرة وما زال الصقيع يأتي ويخربّ المواسم وما زالت الطرقات – محفورة و(الجور) تأكل نصفها.. وما زالت البلدية تهدم (لناس.. وناس تأكل منهم وناس تهددهم، وناس غير ناس تدير ظهرها لهم).
وربما ما زال في بيوت القرية بعض قناديل الكاز… فما الذي تغير؟.
ربما هي المدارس التي تغيرت حيث صارت تشبه علب الكبريت الباهتة بعد أن كانت هي مشكاة للنور والأمل، تزينها الأشجار وتحوم حولها يمامات الحلم، وكان المعلمون غير هؤلاء المعلمين.. حيث كانت عصاهم رحيمة وثقافتهم عالية.. وضمائرهم حية ومكانتهم مبجلة.
اليوم يضحك التلميذ على المعلم.. وخاصة إذا كان ممن تطول يده المدرسة كلها حيث ينتظره سائق وحارس وبواب.
المتغيرات كثيرة، ولكن أهم تلك المتغيرات انتشار المدارس الخاصة التي (تسلخ جلد الأهل) بأقساطها العالية دون تقديم ما يقابل ذلك من تكاليف، إذ إن معظم هذه المدارس وخاصة في الساحل السوري غير مدفأة وقد لا تتوافر فيها الكوادر التعليمية العالية ولا النظافة العالية لتتحول إلى نسخة ملونة من مدارس الدولة التي يتكدس فيها البرد والإهمال وخاصة مع نقص الكهرباء والماء والمقاعد المريحة.
وإذ أؤكد أن المدينة تغيرت.. والناس تغيرت.. فهذا ليس بسبب الحرب فقط، وليس بسبب الحصار فقط ، إنما نحن البشر نحاصر أنفسنا ونعاقب مدننا بالإهمال والفوضى والتلوث الذي يبدأ من المنزل حتى مؤسسات الدولة دون استثناء. يبدو أن المواطن لا يشعر أن هذه المؤسسات تخصه أو أن له فيها حجر أساس.. والدليل على ذلك هو أن هذا الموظف يدير ظهره لمكتبه ومؤسسته بمجرد أن يخرج منها.. وكذلك الطالب الذي يكسر زجاج مدرسته بمجرد ابتعاده عنها. فهل هذا زمن المتغيرات الأخلاقية، أو زمن اللا انتماء؟ وما هو الانتماء، وكيف نفعل خاصية الانتماء وحماية الصورة من الانهيار؟.
يكفي أن نتأمل ما حصل في بلدنا خلال سنوات تسع، وما قام به الجيش السوري وما قدم من شهداء، وما فقدنا من فلذات أكباد وما عانيناه من خراب، حتى نحب بعضنا أكثر وبلدنا أكثر ونتلاحم ونتعاضد أكثر لنحافظ على قيمنا ومبادئنا وإنساننا وخاصة أطفالنا الذين يخرجون من بين القذيفة والقذيفة حاملين أقلامهم التي سيكتبون بها للوطن رسائل حب وانتماء وعطاء.
إن البلدان التي يتهدم فيها الكتاب وتتهدم فيها المعرفة وينكسر فيها القلم، لن تكون بلداناً عظيمة، أو فاعلة في خضم هذا الضياع والخراب والهجمات الاستعمارية المتكالبة على أرضنا وثرواتنا.
إن أفضل وسيلة لحماية هويتنا وانتمائنا وتكريس القيم الوطنية والأخلاقية تكون انطلاقتها من المدرسة التي هي بيت القيم والعادات والتطور والتميز واحترام الأرض.. وللأسف الشديد هذا لم يعد موجوداً بالصيغة التي تكرس ما ذكرناه بسبب الحرب وخضوع الكثير من المناطق مع مدارسها للمتطرفين والغوغاء، الذين غيروا المناهج الوطنية والعلمية والقومية ونشروا كتب التطرف والأفكار الانفصالية والعقائد والأفكار القاتلة، لذلك صارت الفكرة غريبة والناس غرباء في الفكرة.
من هنا يتعاظم دور مدارس الدولة الرسمية تحديداً ويتعاظم دور المعلم الذي نعول عليه في بناء جيل ينتمي للوطن ويمجد تراب الوطن الذي روي بدم الشهداء ويقدس العلم والمعرفة اللذين هما عماد التطور والبناء والدولة القوية.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 12-2-2020
الرقم: 17191