هي حلب ونحن أحبابها، نكتب لها الشعر والأغنيات حتى تظل المحبوبة البهية المضيئة على مرّ الدهر .
هي حلب ..أول مدينة زرتها، أنا الريفية القادمة من سهول البحر ومن حقول البرتقال ومن هدير الموج ..أمسكت يد الدهشة باعتزاز وباليد الأخرى أمسكت ثوب أمي حتى لا أضيع في الفتنة أو تخطفني المصابيح المعلقة على الجدران أو تسحرني عناقيد اللؤلؤ المضاءة والألوان الساطعة في السوق وأنسى قريتي وقناديل الكاز وطرقاتها الموحلة وبيوتها الفقيرة، ونوافذها المفتوحة على الحلم ..والحلم بعيد إلا في حلب، والقلب خافت الوجيب إلا في حلب .. هنا حلب .. كل شيء فيها باهر ومبهر، جامعها الكبير،قلعتها، فرسانها الذين يخرجون من بوابة الزمن وينتشرون في الحارات والأزقة، يطهرونها من رجس السلطان سليم وأحفاده وأحقاده .. ثم يعودون ليشربوا شراب وردها الذي يفوح في الربيع وينعش الروح، فتتحول إلى عاشق لهذه المدينة ولأهلها الطيبين الرائعين وتتمنى ألا تغادرها .
لكن مع مغادرة المدينة يمكن للقلب أن يبقى فيها ..ويمكن للذاكرة أن تخبئ رائحة حاراتها العتيقة وأبوابها الأثرية العريقة، وقدودها الشجية، ويمكن لك ان تدق هذه الذاكرة متى يشاء الشوق وأنت البعيد وحلب القريبة حتى النبض .
لا يمكن لأي سوري أن يذكر حلب حين كانت تتألم وتنزف أمانها وأبناءها وتخسر معاملها التي نهبها العثماني أردوغان حفيد السلطان سليم ومرتزقته الذين جاؤوا من كل فج عميق، إلا أن يتنهد من حسرة وألم ويكزّ على الوجع حتى لا يصرخ (آه يا حلب).
لقد تمزقت قلوبنا، ويبس الدمع في محاجرنا لأن حلب لم تكن تنام ملء جفونها بأمان، صبرت حلب .. وصبرت دمشق،ومالت الطرقات وابتعدت والتفت في أرجاء نائية وخطيرة كي لا ننأى عن حلب ولا تضيع منا دهشتها ومقامها العالي وتاريخها وجامعتها وبحوثها وقطنها وكرزها ورائحة ( كبابها ) وفستقها ومفارقها وأسواقها المسقوفة وبواباتها التي توصل المتنبي وسيف الدولة وأبا فراس الحمداني بقاسيون وبردى والغوطة والمجد والبوابات العصية على الانفتاح للغاشم الذي يطعن في الظهر، ونحن قوم لا نخون ولا نطعن بالظهر ولا ننسى ثأرنا ولا إرثنا .. فما نسينا حلب، وما نسينا شهداءها ولا خلانها المخلصين ولا كنائسها ورهبانها .
وكان يوماً .. يوماً كما قال السيد الرئيس بشار الأسد – حين بارك لأهل حلب ولسورية كلها وللجيش البطل وللشهداء وأسرهم بتحرير حلب من القتلة، فبعد تحرير حلب ليس كما قبل تحريرها، واليوم ليس كما الأمس .. لقد انتصر الجيش وصمد الشعب ووفى القائد بوعده وصدق .. وعلى التاريخ أن يشهد وأن يجهز محابره وأقلامه وأختامه ليسجل انتصار سورية وجيشها ويحيي الشهداء ويبارك لأسرهم بتربيتهم الصالحة وانتمائهم ووفائهم لتراب الوطن.
وتحررت حلب ..أول مدينة زرتها . ذهب لأجلها شهداء كثر من كل أنحاء سورية، لم يبخلوا عليها بالروح ولا بالدم، وعادت حلب .. وعاد طريقها الجميل الذي مشيناه وقطفنا زهوره واسترحنا في مقاهيه، كان ذلك منذ عشر سنوات حين زرت مركز بحوث القطن المتميز عالمياً، تجولت في حلب، واشتريت من حلب، والتقيت أصدقاء من عفرين في حلب، وقرأت الشعر لحلب، ومنها أخذت الكثير من الدهشة لأضيفه إلى رواياتي وقصصي حيث لا يمكن إلا أن تكون حلب حاضرة في القلب وفي الأدب .
وحلب التي خانها كثيرون بقيت صامدة ووفية لقلعتها وأحزانها وثأرها .. وجاء يوم قبل هذا اليوم وتحررت حلب ، لكن المرتزقة والخونة وقطاع الطرق دخلوا من أبوابها الخلفية .. وعانت حلب، وعانى كل الشعب السوري لأجلها، وعلى الرغم من انقطاع طريقها الدولي وشريانها المتصل بقلب سورية لم تنقطع حلب عن أمها سورية على الرغم من الصعوبات والمخاطر .. إلى أن جاء هذا اليوم المضيء المنير الذي أضاءه الجيش العربي السوري بمساعدة الأصدقاء والحلفاء وتحررالطريق من الموت ومن شذاذ الآفاق والخونة والانفصاليين، فعادت حلب .. عادت تركض باتجاه الشام، والشام حاضنة الجميع، وحاضنة الحب والمجد والشهداء فتحت ذراعيها لحلب العصية على الركوع للغريب.
عادت حلب والطريق فتح ذراعيه للوطن، فأقبل أيها الربيع بسرعة لأننا قادمون لنبارك لحلب وأهلها وحجارتها وقلعتها وأشجارها وأطيارها بالنصر وننحني للشهداء والجرحى ونقبل التراب الذي طهروه وأعطوه من قداستهم وطهرهم وأرواحهم الخالدة .
المجد للشهداء، المجد للجيش العربي السوري البطل.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 19 – 2 – 2020
رقم العدد : 17196