شعلة الأولمبياد تنطفئ، أو بالأحرى ينطفئ وهجها.. لأن نارها في حقيقة الأمر ما تزال مشتعلة.. إلا أن ملايين الناس الذين اعتادوا أن يتابعوا مسيرها في رحلة الإعلان عن الحدث الرياضي الأكبر قد اختفوا، وكانوا قبلاً يصطفون في صفوف طويلة على مدى مسار الشعلة المتقدة من دولة إلى أخرى، وهي تنطلق من أولمبيا في اليونان لتبلغ الدولة التي ستستضيف حدث الأولمبياد، بينما رمز الشعلة في نقل روح الرياضة، وقيمها يظل محافظاً على اتقادها مهما طالت مسافات سفرها حتى تبلغ منتهاها، ولو استغرقت الرحلة شهوراً.
فماذا ستفعل شعلة أولمب الآن مع نار باهتة تكاد لا ترى إذ تنتقل وحيدة في مسارها.. وأضواء الإعلام التي كانت تسطع حولها تحولت إلى مجرد خبر عابر بثته نشرات الأخبار.. ولا مشاهير يشاركون في حملها.. ولا مَنْ يتابعها، أو يشاهدها من جمهورها بعد أن انطفأ حضورهم في حضرتها.. ولا من ملاعب تنتظر وصولها رغم الاستعدادات، والتجهيزات التي أخذت دورها في التحضير قبل وقت طويل وعلى مدى سنوات لاستقبال أهم حدث رياضي على مستوى العالم ألا وهو حدث الأولمبياد.. فقد تأجل هذا العام، وربما لوقت غير معلوم بسبب ما عاثه (كورونا) من فساد في الأرض، وهو مرتاح الضمير إذ حرف أنظار العالم من الرياضة إلى العلم، والطب.. وجعل من الاحتماء بالجسم الطبي قضية حياة أو موت.
فشكراً مرة أخرى (كورونا).. لأنك ستكون سبباً في المستقبل لإعادة النظر في توزيع الاعتمادات المالية، والميزانيات التي ستحددها الدول في مسارات إنفاقها بعد أن اكتشفت تلك الثقوب الواسعة في نسيج شبكة الرعاية الصحية، والاجتماعية، وأن ما يُرصد من أموال ليس بالقدر الكافي للبحوث العلمية لدى أغلب الدول.
لعله في مرحلة قادمة بعد التعافي من هذه الجائحة المستبدة (جائحة كورونا) التي اشتعلت نيرانها، والتي هزت أركان الكرة الأرضية كزلزال مدمر، سيُضبط ميزان الإنفاق ليكون في توازنٍ بين العلم والرياضة، فترجح كفة ما تفيد منه البشرية أكثر، وينعكس على سلامة أبنائها، ويبقي على حيواتهم، مادام باب المفاجآت الكارثية قد انفتح على مصراعيه، والصراع قائم بحدة فلا أقل من مواربة باب الكوارث على الأقل قبل إغلاقه.. إذ بماذا ستسعف الشعلة الأولمبية عندما يفقد ملايين الناس وظائفهم بسبب الأوضاع المستجدة التي تسبب بها الوباء الشهير وهو يجتاح الأرض، ويرتع فيها قبل العثور على ما يكبح جموح انتشاره، وجنون امتداده حاصداً للأرواح، لا يفرق بين طبيب، أو رياضي؟
ماذا سيفعل من يحتاجون لعلاج الإنقاذ السريع إذا كانت المشافي، ووسائل الرعاية الصحية لا تستوعب أعدادهم التي هي في ازدياد كبير يوماً إثر يوم؟ وماذا سيجني محبو الرياضة من حصاد أيامهم عندما تغلق في وجوههم سبل الحياة الكريمة بعد أن اضطروا لسجن أنفسهم في بيوتهم لأجل غير مسمى، وإلى أن يصبح الخروج منها، والتجوال في مدنهم آمناً؟
لعل منهج تفكير مختلف سيسود بعد انتهاء أزمة (كورونا) العالمية وأعداد الرياضيين يفوق أعداد الأطباء، والعاملين الصحيين، والعلماء وراء مخابرهم، وأبحاثهم.. ليدرك الجميع أهمية الدخول إلى دائرة العلم ليتم إنقاذ أهل الأرض قبل الدخول الى دائرة الرياضة على أهميتها، وسطوع نجمها، ونجم مشاهيرها، وانجذاب ملايين البشر اليها.
من برتوكولات حكماء صهيون بروتوكول يقول: (سنجعل العالم رأسه بين قدميه).. وها هي مباريات كرة القدم وهي تحصد مليارات المتابعين من جمهورها جعلت العالم فعلاً يضع رأسه بين قدميه بعد أن استأثرت باهتمامات الشباب، وطاقاتهم، وصادرت أحلامهم لصالحها.. فكم من أولئك يحلمون بأمجاد الرياضة، ويضعون أبطالها في مصاف الآلهة ليصبحوا النموذج المثال للاقتداء، أو للتقليد في الممارسات الاجتماعية لمن لا يملك إمكانية أن يكون رياضياً.. فعسى الزائر الجديد (كورونا) ينفض رأس العالم ليرتفع عن موقع قدميه، فيصحو من جديد.
بالطبع لا نريد لشعلة أولمب أن تنطفئ.. لكننا في الوقت ذاته لا نريد لها أن تستأثر بوهج الاشتعال ليخبو مقابلها وهج شعلات أخرى.
وما أتعس الإنسان عندما يتطلع الى النجوم.. وأقدامه تغوص في الوحل.
(إضاءات) – ـ لينــــــا كيـــــــلاني ـ