تعثرُ في الشعر على نصوصٍ باهرةٍ استلهمَ فيها الشعراءُ الأعمال الفنيّة التشكيليّة منذ أزمنةٍ سحيقة؛ ويستطيعُ الدارسُ أن يُصنِّفَ تلك الاستخدامات، وأن يحدِّدَ أشكالها وتقاناتها ورؤاها، ولكن ما يعنينا الآن أن نقفَ على حالتينِ جميلتينِ في الأدبينِ العربي القديم والفرنسي.
الأولى هي سينيّة أبي عبادة البحتري (204 – 284) هـ، التي وصف فيها إيوان كسرى؛ وهو قاعة العرشِ في “القصر الأبيض”، في “المدائن” عاصمة الفرسِ، متوقفاً مليّاً عند نحتٍ بارزٍ في أحد جُدرِ القصر، و هو عملٌ فني يصوّر معركةً دارت بين الروم والفرس عند مدينة أنطاكيّة سنة 540م، يقول الشاعر:
وإذا ما رأيتَ صورةَ أنطا. . . . كيّةَ ارتعتَ بينَ رومٍ وفـــرسِ
والمنايا مواثلٌ وأنوشر. . وانَ يزجي الصفوفَ تحتَ الدِّرفسِ
في اخضرارٍ من اللباسِ على أصــفرَ يختالُ في صبيغةِ ورْس
وعراك الرجال بين يديهِ في خفوتٍ منهم وإغماضِ جَرْس
من مُشيحٍ يهوي بعاملِ رمح ومليحٍ من السِّنان بترس ِ
تصفُ العينُ أنهم جدُّ أحياء لهم بينهم إشارةُ خرسِ
يغتلي فيهم ارتيابي حتّى تتقرّاهم يدايَ بلمسِ
وإذا كنا لا نعلمُ مَن الفنان الذي أبدعَ ذلكَ العملِ الفنّي الباهر؛ كما وصلنا من خلالِ تصوير البحتري الحسّي له، فإنّ تلكَ العواطف والمشاعر التي سيطرت على الشاعرِ لحظةَ الكتابة قد وصلتنا بعمقها وتأجُّجها بعدَ نحو ألفٍ عامٍ من كتابتها؛ لقد استطاعَ المبدعُ أن يعبِّرَ عنها بصورٍ دالةٍ مُعبِّرةٍ وفِّقَ إلى ابتكارها باسترفادِ العملِ الفنيِّ التشكيليِّ الذي قَدَّمَ لنا ماضي أهلِ هذا المكانِ الدارسِ؛ عندما كانوا يوجِّهونَ الجيوش الجبّارة إلى حدودِ الأرضِ ويعودونَ منصورين؛ وقدَّمَ لنا في الآن نفسهِ حاضر هؤلاء القوم؛ فالمكان اليوم ليسَ إلّا أطلالاً، ويكفي أن تتأملَ فيهِ حتى تكتشفَ أنَّ الليالي فعلت فعلها:
لو تراهُ علمتَ أنَّ الليالي جعلتْ فيهِ مأتماً بعدَ عُرسِ
ألا يشي هذا التحوّلُ بمثيلِهِ الذي ألمَّ بالشاعرِ نفسه بعدَ أن قُتِلَ الخليفةُ العباسيُّ المُتوكِّل؛ فحزنَ عليهِ وبكاه ورثاه؛ وهو الذي قرَّبه إليهِ وجعلَ منهُ صديقاً ونديماً، ما جعلَ ابنَ القتيلِ الخليفة الجديد المنتصرَ بالله، يجفوه ويبعده؛ ولا سيما أنَّهُ هو نفسه من دَبَّرَ قتلَ أبيه ووزيره.
وربَّما قدَّمت قصيدةُ شارل بودلير “كآبة” أو في ترجمةٍ أُخرى “سأم” مثالاً جليّاً على هذا الشكلِ من استرفاد الفنّ التشكيلي؛ لنقرأ المقبوس الآتي منها:
“… أنا مقبرةٌ عافها القمر، يسعى فيها
كما يسعى الندمُ دودٌ طويلٌ ينقضُّ دائماً بنهمٍ
على الأعزاء من أمواتي
أنا بهوٌ قديمٌ تملَؤهُ الزهورُ الذابلة
تسكنُهُ أكداسٌ من الأزياء التي فات زمانها
وتستنشقُ فيهِ عبيرَ حقٍّ مفتوح
رسومُ الباستيلِ الشاكية
ولوحاتُ “بوشيه” الشاحبة” .
النصُّ كُلّهُ يتحدَّثُ عن كآبةِ الشاعر التي مَردُّها أساساً إلى شعور بودلير المزمن بالضجر؛ وهو ما يراهُ جان بول سارتر حين يقولُ: “إنّهُ يشعُرُ بالضجر، وهذا الضجر- تلكَ العاطفة العجيبة التي هي أصل كل أمراضه وكل نجاحاته البائسة – ليس حالة عارضة أو كما يدعي هو أحياناً ثمرة عدمِ فضولهِ المقرف: إنّه الضجر النقي للحياة، الذي تكلَّمَ عنهُ فاليري، إنّه الطعم الذي يملكه الإنسان لنفسهِ بالضرورة، إنَّهُ طعم الوجود”.
وإذا وافقنا على أنَّ تلك الموجودات كلها التي رأيناها في البهو القديم، ومن قبلُ في الخزانةِ الضخمةِ المزدحمة بالأدراج (هكذا يصف ذكرياته) بكل ما فيها تُرسِّخُ ما أرادَ الشاعرُ أن يعبرَ عنهُ من حالةِ القنوطِ والسأم التي جعلت من تلكَ ” المادة الحيّة (الشاعر) صخرةً يحيطُ بها رعبٌ غامضٌ، تنامُ في قلبِ صحراء مغبرّة، كأبي هولٍ تجاهله عالم غافلٌ، وأُزيلَ عن الخريطة، ولم يعد يغنّي إلّا على الضوء الشاحب، لأشعةِ الشمس الغاربة.” فلا بدَّ لنا أن نتساءلَ لماذا حشرَ بينها لوحات بوشيه، ووصفها بالشاحبة؟
نعم يمكن لرسوم الباستيل أن تكونَ شاكيةً أو حزينةً أو سوى ذلك كما قدَّمها الشاعر؛ فهو لم يخبرنا عن تلكَ الرسوم شيئاً، ولا نعرفُ من رسمها وما إلى ذلك، لكنَ لوحات فرانسوا بوشيه (1703-1770)، المصورُ والحفّار الفرنسي الشهير، الأستاذُ في اللوفر، ومصوِّر الملك لويس الخامس، ليست شاحبة في حقيقةِ الأمر؛ ولقد تميَّزت ألوانها عموماً بالوردي والأزرقٍ والأخضرِ؛ وركَّز فيها الفنان على جمال جسدِ المرأةِ وعلى “الإغراءِ الأنثوي ” عموماً، وبدت نساؤهُ رشيقات لعوبات كما رأينا في لوحاتهِ: “ديانا بعد حمَّامها” و”فينوس”، و”داناييه” و”ماري لويز أومورفي” وغيرها. فمن أينَ جاءَ الشحوبُ إلى تلكَ الأعمال؟.
لا بدَّ أن هذهِ الرؤية ليست بصريّة واقعية! إنها بالتأكيد رؤيا نفسيّة فكريّة؛ وقد تكون نابعة من أمرٍ يتمثّلُ في أن بوشيه كان على الأغلب يرسمُ أعماله لتناسب الصالونات الصغيرة والغرف التي تعبِّرُ عن حب المظاهر؛ حيث يقضي أبناءُ الطبقةِ الأرستقراطيّة أوقات مُتعَتهم، ويعيشونَ ملذاتِ الحبِّ الجسديِّ؛ وهو ما عبَّر بودلير غير مرَّةٍ عن حقدهِ عليه وكرهه له وللطبقةِ التي تعيشه، وشاركَ في الانتفاضةِ الشعبيّة عام 1848 الساعية لتغيير ذلك الوضع الاجتماعي، وأصدر مع بعضِ أصدقائهِ نشرةً أو صحيفةً ذات طابع اشتراكي حملت اسم “الخلاص العام”.
إضاءات – د. ثائر زين الدين