ثورة أون لاين – فاتن أحمد دعبول:
لم يكن اتصالاً عادياً ما تلقيته من إحدى قريباتي، وهي التي قدمت للوطن شهيدين خلفا أبناء وبنات ترعاهم بمقل العيون، وتردد كلماتها التي أصبحت علامة فارقة في حديثها: «سأصنع منهم قرابين جديدة للوطن، فمن أغلى من الولد وولد الولد غير الوطن؟ فلولا تضحيات الأبناء جميعهم لما كنا اليوم ننعم بالأمان والسكينة».
كان الاتصال يتضمن دعوة للاحتفاء بعيد الشهيد، فقد أقامته تمجيداً لذكرى مرور سنتين على استشهاد أبنائها، في رسالة لأحفادها ولنا جميعاً، أن الشهداء حاضرون بيننا في كل آن، فإن غابت أجسادهم، تبقى أرواحهم بيننا حية لا تموت.
أمام عظمة أمهات الشهيد وتضحياتهم ومواقفهم التي شكلت أنموذجاً للعالم جميعه، تخذل الكلمات، فشتان ما بين من يكتب بحبر الدم ومن يكتب بحبر القلم، فقد استطعن مع أبنائهن أن يكرسن أسمى معاني الشهادة والتضحية من أجل أن يحيا الوطن حراً أبياً لا يدنسه إرهاب أو عدو غاصب.
ربما نستطيع أن نكتب عن بطولاتهم مجلدات وكتب وروايات لا تنتهي، ولكن هل حقاً نستطيع أن نكون على قدر تضحياتهم المغمسة بدم الأرواح وقد أصبحت أسماؤهم إيقونات مسجلة في ساحات النضال والفداء والوفاء والانتماء إلى كل ذرة تراب؟ يندفعون غير هيابين ولا وجلين بإقدام قل مثيله.
وإن كان هذا اليوم كرسه الشهداء الذين قضوا على يد السفاح جمال باشا في العام 1916، وكانوا بحق صورة مشرقة للشجاعة والبطولة، وستبقى بطولاتهم ماثلة في الذاكرة الوطنية، فإن أحفادهم حملوا الأمانة وساروا على درب الشهادة بقلوب قدت من المحبة والإصرار والعزيمة «فإما النصر أو الشهادة».
واليوم إذ نحتفل بالشهداء وتضحياتهم نؤكد للعالم جميعه أن ثقافة التضحية باتت جزءاً من ثقافة الحياة التي نعيشها، فقد اعتاد أبناؤنا أن يكونوا على أهبة الاستعداء لتلقي نداء الوطن للذود عنه، وما أشبه اليوم بالأمس، ونحن نرى صوراً لقائمة من الشهداء، فحيث حللنا وفي أي مدينة مررنا نجد صورهم قد اعتلت الساحات تعلن تحدياً جديداً في وجه كل من تسول له نفسه أن يمد يد الغدر إلى أي شبر من ترابنا المضمخ بعبق دم الأجداد والأبطال.
ولاتزال زغاريد الأمهات الممزوجة بأحر الدموع تسكن الروح وتسجل في سفر التاريخ تضحيات جديدة، ومن منا لم تهزه صورة خنساء اليوم التي قدمت أبناءها الستة عربون وفاء لمجد الوطن وعزته، وشكلت رمزاً خالداً للأم السورية التي وعت مع مثيلاتها من الأمهات معنى التضحية وقدسية الشهادة؟.
من الصعوبة بمكان أن نتحدث عن الشهيد ونحن لانزال نعيش أصداء هذه التضحيات وقد ارتقت أرواحهم إلى المكان الذي يليق بهم، بعد أن شهد القاصي والداني ملاحم بطولية ستظل حية وحاضرة في قلوبنا وذاكرتنا، فترابهم لم يجف بعد، والقلوب لاتزال تنفطر على فراقهم، ولكن عندما يكون الوطن هو البوصلة، يكون المجد والعزاء.