بعد شهور من العزل والحجر ضاق الناس ذرعاً بالصحبة التي ترافقهم، وبالمكان الذي يجمعهم، وهم يتلهفون للتحرر من قيد احتجازهم في بيوتهم، أو في غير بلدانهم.. حال لم يقتصر على بلد واحد بل هو عام وشامل في كل أنحاء العالم، ولو اختلفت الظروف، والمواقيت.. وليس هذا فحسب بل إن قيوداً أخرى فرضت نفسها متمثلة بتباعد اجتماعي، ومسافات تفصل بين الناس مهما قلَّت أو بعدت، وأقنعة تحجب الوجوه، كل ذلك بات مما يكبل أيضاً، ولا يسمح بتجاوزه وإلا وقع المحظور، وخطر الوباء مازال ليس له دواء يحمي الأصحاء، أو يضمن للمصابين كامل الشفاء.
هذا وغيره مما كان له انعكاساته المختلفة على حياة جميع الناس.. فالعزلة البشرية دفعت بشكل كبير إلى الصحبة الإلكترونية سواء من خلال ما أصبحت تتيحه المؤسسات، والجهات المختلفة من إمكانية الدخول إلى أروقتها مما لم يكن متوفراً من قبل، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي قرَّبت المسافات أكثر فأكثر بين المعارف، والأصدقاء في محاولة لكسر طوق العزلة والوحدة، أو من خلال (التفنن) في نشر الإشاعات الكاذبة، والأخبار الملفقة، واستخدام كل برامج التزييف العميق للصورة والصوت لتركيب أفلام قصيرة تربك في العثور على الحقيقة إن لم تضلل الرأي، وتحجب الصورة الصحيحة، ومن دون ضوابط حاسمة تذكر من المواقع، أو إحساس بالمسؤولية ممن يختلق ما راق له من قصص وأخبار، حتى أصبح الفضاء الإلكتروني فضاءً للحرية المتفلتة من القيود، ومرتعاً خصباً لكل من يريد للكذب أن يزيد.
لكن الأمر في الآونة الأخيرة لم يعد يقف عند هذا الحد عندما كثُر تسلل قراصنة (الإنترنت)، وتزايدت أعدادهم بعد أن فازوا بفسحة إضافية من الوقت ليمارسوا فيها اختراقاتهم ضمن حدود الهواية، أو الاحتراف لا فرق، وسواء من المبتدئين، أو من ذوي المهارات العالية في عملية اختراق المواقع أيضاً لا فرق.. ولا من خوف يمنع، أو رادع يهدئ الخطوات إذا ما احتسبت المكاسب بألوف الدولارات.. ولتبرز بالتالي إلى الساحات مشكلات فوق مشكلات تضاف إلى قائمة طويلة لم تعد تبدأ عند مكافحة الأمراض، وفقدان الوظائف، وموارد العيش، وبالتأكيد لن تنتهي عند التجسس الإلكتروني الذي غدا متطوراً أكثر من ذي قبل، وجرائمه تتعدى إيقاف المستخدمين عن استخدام أجهزتهم، أو نشر برامج مزورة تخترق الأجهزة الذكية لتصل إلى حد ابتزاز الأموال عن طريق أساليب الفدية، أو سرقتها من مصادرها مباشرة بعد اختراق البريد الشخصي، والحسابات البنكية، وانتهاك حقوق الملكية الشخصية، والأخرى الفكرية أيضاً.. بل وصولاً إلى الإضرار بمؤسسات حكومية تقوم على حماية مواطنيها.. وربما إلى أبعد من ذلك.
حرية إلكترونية لم تكن متاحة قبل زمن المعلوماتية لتأتي ظروف عالمية فيها اضطراب، وانشغال بقضية كبرى عطلت اقتصاد العالم ليُفسح بالتالي المجال واسعاً أمام مثل هذه الانتهكات، وإلى مزيد من الحرية في التحرك عبر مساحات جديدة، ومبتكرة للقنص، والاصطياد، وللتنمر، والإساءة بكل أشكالها.. فتتحول الحرية إلى فوضى إلكترونية.. وليصبح الأمر مشابهاً لحالات الانفلات الأمني الذي قد يطرأ على بعض الدول نتيجة الأزمات.. إلا أنه هذه المرة انفلات من نوع إلكتروني يمكن أن يتسبب بكوارث حتى للدول لم تكن في الحسبان ما لم توضع له الضوابط الصارمة من قبل المواقع، والحكومات أيضاً.
هذا الأمر بما ينطوي عليه من مخاطر تنبهت له فيما سبق المواقع الإلكترونية، وبالأخص منها ما هي على درجة من الأهمية، والانتشار ووضعت أساساً للتعامل معها، وبرامج للوقاية والحماية، إلا أن الوضع تطور مؤخراً، واختلف مع تطور أحوال الناس، وانتقالهم من حال إلى حال، فإذا بتلك المواقع تقرر أخيراً أن تضع عيناً حارسةً تشبه (الكاميرات) التي باتت تنتشر في الشوارع، وأمام البيوت، والمحال لتضبط الخلل، وتحاسب حتى على الكلمات الجارحة، والأخبار الكاذبة.
لقد أفرزت هذه المرحلة ظواهر جديدة، وممارسات مستجدة، سببتها تلك العزلة.. ولعل آثاراً أخرى مختلفة، ومتعددة ستكشف عن نفسها عندما تُفتح الأبواب التي أغلقت بسبب الوباء على مصراعيها، ويخرج الناس من جديد إلى فضاء الحياة الرحب، وقد مسهم من التغيير ما هو قليل، أو كثير.. وليصبح الأمس مختلفاً عن اليوم، والغد.
إضاءات ـ لينـــــــا كيـــــــــلاني