قارنَ بعضُ المفكرين العرب بين روايتيّ “حي بن يقظان” لابن طفيل (1110 – 1185) م و”روبنسن كروزو” لدانييل ديفو (1660 – 1731) المكتوبة عام 1719 ولعلّ من أهم من فعَلَ ذلك المفكّر السوري جورج طرابيشي، لكن هؤلاء بمن فيهم طرابيشي -على الأغلب- فعلوا ذلك في محاولة للتمييز بين العقليّة الغَرْبيّة والعقليّة العربيّة الإسلاميّة، غير آبهين بأن بين العملين من الزمن ما لا يقل عن 570 عاماً بكل ما يعنيه ذلك على الأصعدةِ كلّها، ومما قالهُ جورج طرابيشي في هذا السياق: “منذ مطلع القرن الثامن عشر كانت إيديولوجيا التقدُّم قد وجدت ممثلها النموذجي في شخص روبنسون كروزو الذي استطاع بقدرته الإنسانية الخالصة أن يجترح معجزة العمران بالمعنى الخلدوني للكلمة، فقد اقتدر بمفرده، وفي وحدته في جزيرته المقفرة، أن يعيد بناء العناصر الأولى للحضارة البشرية، وأن يقوم، على التوالي، بأدوار صيَّاد العنز ومربي الماشية والنجَّار والمعمار والحفَّار والزارع والسلَّال.
والمقارنة تفرض نفسها هنا من تلقاء نفسها، فالأدب العربي عرف هو الآخر، وقبل أكثر من خمسة قرون من ظهور رواية دانييل دي فو، متوحده الجزيري، وذلك هو حي بن يقظان الذي شاء له القدر أن يُهجر وهو طفل في جزيرة قريبة من الهند، فشب عن الطوق وتدبَّر أمر نفسه بنفسه وبالاعتماد على قدراته البدنية والعقلية وحدها. ولكن على حين أن همَّ روبنسون كروزو كان إعادة بناء العمران البشري، فإن المتوحِّد حي بن يقظان انصرف بكل تدبير إلى اكتشاف وجود الله وإلى معرفته بفطرته وبقدرته العقلية الذاتية. صحيح أن حي بن يقظان كان عليه في أول الأمر، وقبل أي تدبير روحي، أن يفكِّر بأمر معاشه، ولكن تلبيته لحاجاته المادية تشكِّل واقعة ثانوية في القصة، ولا تزيد في الأهمية على واقعة قيام روبنسون كروزو بدور المبشِّر الديني عندما هدى خادمه جمعة آكل لحم البشر، بالتوازي مع تحضيره، ومن خلال استباق مدهش لعصر الاستعمار والتبشير، “إلى عبادة الله”.
والحقيقة أنني في هذهِ الزاوية الصغيرة لا أريدُ أن أنتصر إلى رأي طرابيشي ولا إلى رأي من حاورهم في هذا السياق كالجابري وعَمارة، لكنني أرى أن من التعسّف بمكان أن نقيم مثل هذهِ المقارنة ونخلص إلى آراء فكريّة حاسمة بين عملين من زمنين متباعدين، فنرى كُلّاً منهما علامةً على عقليّة الأمة التي أنتجته؛ بل علامة نسحبها عبر الزمن حتى اللحظة الراهنة، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن لماذا لم يقارن الأساتذة الذين ذكرناهم بين عملِ ابن طفيل، وأيّ عمل أوربي آخر صَدَرَ في زمنه؟ والإجابةُ ليست صعبة كثيراً، لأنهم إن وجدوا مثل ذلك العمل، فَسيقدّم وجهَ أوروبّا الغارق في الظلمة والجهل وفيما بعد بمحاكم التفتيش وحرق الطبيبات والأطباء ممن اتهموا بالسحر وما إلى ذلك…
إن رواية ابن طفيل “حي بن يقظان”، واسمحوا لي أن أسمّيها رواية، سبقت الرواية الأوروبيّة بزمن طويل وأثرت بها أيّما تأثير، فقد ترجمها المستشرق الإنكليزي ريتشارد بوك عام 1671 أي بعد رحيل ابن طفيل بنحو 500 سنة إلى اللاتينيّة بعنوان “الفيلسوف الذي عَلّم نفسه”، وأحدثت ضجة في الوسطين الأدبي والعلمي، فتهافت الفلاسفة والكتاب في الغرب على دراستها وترجمتها إلى كثير من اللغات الأوروبيّة، ولعلّها ألهمت كثيراً من الأدباء هناك فقدّموا رواياتٍ وكتباً مهمّة؛ ذكَرَ جان جاك روسو أن هذهِ القصّة أثّرت تأثيراً واضحاً في كتابه “عقيدة قس جبل السافوا”، ولا بدّ أنّ الروائي الإنكليزي رديارد كبلنغ قد أفاد من فكرتها في روايتِهِ “كتاب الأدغال”، التي تسرد قصة فتى الأدغال ماوكلي الذي تربيّه الذئبة وسط جرائِها، ولا شك أنها ألهمت بصورةٍ ما الروائي الأمريكي إدجار رايس بوروز في روايتِهِ “طرزان”، الذي يعيش بين القردة في الأدغال، ويبقى العمل الأبرز الذي نَضَحَ من “حي بن يقظان”، والذي يراه البعض العمل الروائيَّ المُكتمل والأقدم هو “روبنسن كروزو” لدانييل ديفو.
ليست رواية “حي بن يقظان” -إذا ما أُخذت في زمنها- مجرّد رواية ذات بعد ديني؛ فقد رأت مجلّة “المعاملات الفلسفيّة” التابعة للجمعيّة الملكية الإنجليزيّة عام 1671 بعد أن نشرت مُلخصاً للقصّة – “أن غاية ابن طفيل كانت إثبات كيف أن الإنسان قادر من تأمّل الأشياء الدُنيا، ومن خلال الاستخدام الصحيح لعقله، أن يصل بنفسه إلى معرفة الأشياء الأسمى”، ولعلّ هذا التقويم على غاية كبيرة من الأهميّة بالنسبة لفلاسفة الطبيعة في أوروبّا يومذاك، فهو يدعم وجهة نظرهم أن لا وجود لأفكار نظريّة سابقة في عقل الإنسان، بل يصل الإنسان إلى معارفِهِ عبر التجربة الحسيّة. وسيبلغ هذا الرأي ذروته عند جون لوك الذي رأى أن العقل الإنساني عبارة عن صفحة بيضاء تملؤها التجربة.
إضاءات – د. ثائر زين الدين