الثورة أون لاين – علي الأحمد:
برحيل هذه القامة الإبداعية السامقة، تخسر إيران أجمل وأعذب أصواتها في التاريخ المعاصر، كما تخسره بطبيعة الحال، كل القلوب المحبة، التي أصغت إلى تراتيل وترانيم، هذا المعلم الأكبر، الذي ترك عبر عمره الفني المديد، تراثاً وإرثاً كبيراً، من الجمال الموسيقي النادر والغناء الصوفي الوجداني، حيث الصوت المعجز المتمكن، يكتب مجده وأسطورته الحية الباقية مابقي الدهر، يرحل واحد من أعظم الفنانين الكبار، بعد رحلة مديدة وارتحال دؤوب بين جماليات الموسيقى الفارسية، والروح المتصوفة العاشقة للجمال والخير والإنسانية.
كان صوته العذب يرتشف شهد هذه اللغة الإبداعية على مهل، ليصبها برءاً على الموجع، ويسكبها سحراً وفرحاً مشتهى، يزيد خفقان القلوب الحائرة، بمسالك هذا الصوت الماسي وعُربه المطواعة، وزخارفه الارتجالية ببعُدها الطربي التعبيري والدرامي، هذا التلوين المعجز الذي امتلك ناصيته باقتدار، نابع من شاعرية وحس مرهف وقدرة معرفية كبيرة في اجتراح اللحظة المنشودة في الغناء،” الوصول إلى النشوة الروحية المبتغاة” وخلق حالة من الألفة الجمالية مع كل هذه التقاليد الموسيقية العظيمة ، هو هنا نسيج وحده وخاصة منذ أن أصبح القرآن الكريم مرجعيته الأولى، بتأثير من والده الذي كان قارئاً مجوداً للقرآن، بما منحه من طمأنينة روحية وسكينة قلبية، بقيت تسانده ويحضر طيفها معه في أغلب أمسياته الجميلة الساحرة، تبرز هنا جمالية تلك الآية الكريمة “ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا” التي أشبعها هذا الفنان المقتدر، كل السحر الحلال، من التصوير والتعبير الدرامي الذي أيقظ الروح لتمشي على قدميها الحريرتين، في مسلك الجمال والجلال.
نعم من الصعوبة أن يكتب المرء عن فنان استثنائي ومبدع، بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ ودلالات، خشية التقصير وعدم الإحاطة الشاملة بكل الأعمال الموسيقية التي قدمها خلال مسيرته الحافلة بالعطاء والمجد الفني الذي قطفه بعد جهد وكفاح وتعب، ليحتل مكانته الكبيرة التي يستحق، ويترك بصمته في التاريخ المعاصر كفنان أصيل حافظ على التقاليد الموسيقية والتراث الغنائي الفارسي، على مدى رحلة طويلة من العطاء والفرادة والتميز، منحته منظمة اليونسكو في عام 1999جائزة “بيكاسو” وقلدته أيضاً ميدالية الموسيقار” موزار” عام 2006 تقديراً لفنه الأصيل في الحفاظ على تراث الموسيقا التقليدية الكلاسيكية “داستغاه “والإسهام في إحيائه وتجديده بلغة ورؤية معاصرة، كما نال وسام الشرف الوطني ” شوفالييه للفنون “. والأهم من كل ذلك،تقدير العالم ومحبيه لفنه الإنساني العظيم. لسعة وعمق حضوره في مسير ومسرى ثقافات العالم، رحل هذه القامة الإبداعية منذ أيام ودفن بالقرب من قبر “الفردوسي” صاحب الملحمة الشعرية “الشاهنامة” أو “كتاب الملوك” وهو الذي غنى الكثير من الأعمال لشعراء كبار ومتصوفة من أشهرهم ” الخيام وحافظ وسعدي الشيرازي ومولانا جلال الدين الرومي ” وغيرهم .
نعم هي خسارة فادحة رحيل هذا الفنان الجميل النبيل، لإيران وكل متذوقي الفن الراقي الأصيل، وبالتأكيد سيترك فراغاً كبيراً في الموسيقا الإيرانية، لكن يبقى العزاء الوحيد في أعماله وأمسياته الرائعة التي قدمها ونثرها فرحاً وجمالاً وإبداعاً مائزاً، على مسارح العالم، في ارتحال معرفي وثقافي وحوار حضاري خلاق، بين ثقافات العالم، لنشر المحبة والسلام والجمال في العالم، يقول “على الفن أن يخدم الجمال، والجمال يخلق الحب والعاطفة، والحب والعاطفة يمنعان الإنسان من اقتراف الذنوب ويجعلانه يسعى إلى قيم إنسانية أعلى وأسمى “.