لعل أبلغ الدعوات الساخرة التي وجهتها بعض الأطراف الدولية إلى ترامب بعد غزوة الكابيتول هي مطالبته (الاعتراف بنتيجة الانتخابات والرحيل سلميا واحترام القانون والدستور ورغبة الشعب الأميركي في الحرية واختيار من يحكمه)، وهذه الدعوة تختزل في مدلولاتها العميقة كل الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها الولايات المتحدة بحق الشعوب الأخرى تحت ستار الديمقراطية ونشر الحرية، وهي لم تزل حتى هذه اللحظة توغل في تدخلاتها السافرة في الشؤون الداخلية للكثير من دول العالم، في إطار تسويق نفسها كبلد ” حام للديمقراطية والحرية”، وتحت مزاعم تلك الشعارات الزائفة شنت الكثير من الغزوات، ودمرت العديد من الدول، وشردت الملايين من مدنهم وحتى من بلداهم، فأين هي اليوم من ديمقراطيتها المزعومة؟.
وسط العاصمة واشنطن يتحول إلى ثكنة عسكرية مع نشر أكثر من 25 ألف عنصر مسلح من الحرس الوطني، ومبنى الكابيتول تم تحصينه بسياج يبلغ ارتفاعه 7 أقدام مغطى بأسلاك شائكة وخلفه المئات من رجال الحرس الوطني المسلحين بحسب وسائل الإعلام الأميركية، وحركة النقل تم تعليقها، وإجراءات الأمن المشددة بمحيط العاصمة وصلت إلى مستوى غير مسبوق منذ هجمات الحادي عشر من أيلول، والأكثر من ذلك أن أعضاء بالكونغرس اشتروا سترات واقية من الرصاص خوفاً على حياتهم بحال حدوث أعمال عنف، وكل ذلك في سياق التحضيرات الأمنية لحفل تنصيب جو بايدين بعد أربعة أيام، فبماذا إذا تختلف الولايات المتحدة عن جمهوريات الموز؟، والكثير من المسؤولين والسياسيين الأميركيين وعلى رأسهم الرئيس الأسبق جورج بوش الابن شبهوا أميركا بالفعل أنها بجمهورية موز، وهذا الوصف يبدو صحيحا من الناحية العملية، فمن يحكمها هم ثلة من العصابات الثرية الفاسدة، تتناوب على السلطة استنادا لنظام انتخابي مثير للشكوك والجدل، أبواب التزوير فيه مفتوحة على مصاريعها، وكل ما فعله ترامب اليوم أنه عرى أكثر حقيقة النظام السياسي والانتخابي لأميركا.
اتخاذ السلطات الأميركية مثل هذه الإجراءات الأمنية المشددة، معناه حماية عملية انتقال السلطة بقوة الحديد والنار، كما يحصل عادة في جمهوريات الموز، وهذا يعني أن الإدارة القادمة ستكون فاقدة للشرعية، على الأقل من قبل نصف الشعب الأميركي الرافض لنتائج التصويت باعتبارها مزورة، فهل يمكن للإدارة الجديدة الادعاء بأنها فازت بانتخابات حرة ديمقراطية نزيهة؟، فمثل هذا الادعاء لن ينطلي على الكثير من شعوب العالم، ولكن بفعل نزعة التسلط والهيمنة التي تحكم السياسة الأميركية، فهذه الإدارة لن تكون أقل سوءا لجهة التدخل في شؤون الدول الأخرى تحت ذريعة الديمقراطية المزعومة، فمحاربة الشعوب وقهرها، والعمل على سلب حقوقها وثرواتها، وحصارها وتجويعها، هو نهج أميركا الثابت، وانتاج عدد لا يحصى من التنظيمات الإرهابية، هو جوهر استراتيجيتها في سعيها لنشر الديمقراطية والحرية وتطبيقها وفق منطقها الاستعماري، وهذا يدل على أن اختيار هذا الرئيس أو ذاك في أميركا، هو ليس نتاج عملية انتخابية ديمقراطية، وإنما نتيجة قرار تتفق عليه عصابات السلاح والمال والنفط.
عندما يتعرض الكونغرس، وهو – رمز الديمقراطية الأميركية المزعومة – لمثل هذا الهجوم غير المسبوق، فهذا يعني أن الأميركيين أنفسهم قد سئموا من طريقة تعاطي مسؤوليهم مع مفهوم الديمقراطية، وتطبيقها وفقاً لمصالحهم وأهوائهم، وهذا يبدو واضحا من خلال معاناة الغالبية العظمى منهم من سياسة التمييز العنصري في بلادهم، وجريمة مينابوليس العنصرية وتداعياتها عرت قبح هذه السياسة، حتى نظم الرعاية الاجتماعية تقوم على أساس التمييز بين البيض والسود، والملايين يعانون نتيجة هذه السياسة من الفقر والجوع والتشرد، ومن نتاج الديمقراطية والحرية أيضاً السماح بانتشار الأسلحة بأنواعها كافة، وظهور عصابات ومنظمات نازية تعمل لخدمة السياسيين وشركات المال والنفط، ويذهب ضحية جرائمها آلاف الأميركيين سنويا، هذا عدا عن إقامة الجدران العنصرية بوجه المهاجرين، وفصل الأطفال منهم عن آبائهم وأمهاتهم في انتهاك سافر لأبسط حقوق الإنسان، ومن هنا فإن أحداث الكابيتول لا تعكس حالة تمرد لنصرة رئيس متغطرس، مهزوم سياسيا وانتخابيا وأخلاقيا، وإنما حالة تذمر من نظام سياسي فاشي لا يتردد لحظة واحدة عن التنكيل بشعبه اذا اقتضت مصالحه الضيقة هذا الأمر، ألم يتخل ترامب عن أنصاره ممن حرضهم لاقتحام الكونغرس، ووعد بمحاسبتهم ومعاقبتهم فور إدراكه مخاطر إجراءات العزل بحقه، وإمكانية حرمانه من الترشح لولاية قادمة؟!.
نبض الحدث- بقلم أمين التحرير ناصر منذر