لا تنجح دائماً في عزل ذكرياتك الشخصية حين يكون الحديث عن راحل كبير، وهو حالي مذ قرأت الخبر المفاجئ والقاسي والمؤلم عن رحيل الفنان التشكيلي الدكتور عبد الكريم فرج.. الصديق والفنان والباحث والمعلم. فمنذ تلك اللحظة والذاكرة تستحضر عشرات الصور عن الراحل الغالي، ومنها الحوار الحار الذي أثارته تجربته بين أعضاء لجنة تحكيم بينالي المحبة عام 1999.
كان ذلك الحوار يجمع بين نقيضين: إعجاب استثنائي بثراء تجربة عبد الكريم فرج، واتفاق في الآن ذاته على منح الجائزة الأولى للفنان الراحل مصطفى الحلاج، وسبب الحديث عن نقيضين أن اللجنة انحازت في خياراتها إلى التجارب المجَدِّدَه، لكن هذا التوجه كان لا بد أن يسقط أمام حضور تجربة الحلاج بكل ما تمثله وترمز اليه، فذهبت الجائزة الثانية (الفضية) إلى عبد الكريم فرج لتكون الجائزة الثالثة التي ينالها بعد الشراع الذهبي في الكويت عام 1969 و الميدالية الذهبية للبينالي الآسيوي الثامن في داكا (بنغلاديش) عام 1997، وقد تلاها جائزة مسابقة (فكر مع يدك) التي أقامها المركز الثقافي الاسباني بدمشق عام 2003، و جائزة مهرجان المرأة في دمشق عام 2004، و وسام الاستحقاق البولوني من رتبة فارس في العام ذاته.
لم يكن وسام الاستحقاق البولوني تتويجاً لجوائز عبد الكريم فرج، بقدر ما هو تتويجٌ لدوره كفنان سوري درس في بولونيا التي أوفد إليها عام 1971 بعد تخرجه من قسم الحفر في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ليكون أحد أوائل الفنانين السوريين الذين فتحوا آفاق الفن السوري على فن دول أوروبية غير إيطاليا وفرنسا، ففي بولونيا درس فنها كما يدرسه أي بولوني، وحرص على معرفة كل ما يمكنه من تاريخها الإبداعي، والشعبي منه بشكل خاص، وكذلك الاتجاهات المجددة التي أوصلته إلى امتلاك الحرية الكاملة في التجريب والتعبير، واستخدام جميع التقنيات الممكنة على سطوح الألواح المعدّة للحفر والطباعة، وأيضاً على السطح المطبوع، في عام 1978 نال درجة الماجستير في الحفر والطباعة من أكاديمية الفنون الجميلة في وارسو، وأتبعها بدكتوراه دولة في تاريخ الفن عام 1984، ومنذ ذلك الوقت تشهد تجربته محطات متتالية في مسار البحث التشكيلي العملي، منحتها صياغات جديدة في الملمس والشكل باستخدام (الكولاج) المتعدد الخامات، الممزوج بتأثيرات الحفر والتصوير.
يتقدم اسم عبد الكريم فرج إلى الواجهة حين يكون الحديث عن فن الحفر في سورية. فهذا الفنان النشيط الذي ولد في السويداء عام 1943، أمضى جل حياته في تعلم أصول وتقنيات فن الحفر والطباعة، وفي تطوير تجربته الذاتية في هذا المجال، ومنذ إنهاء دراسته الجامعية تولى عدة مهام علمية، فكلف برئاسة قسم الحفر والطباعة في كلية الفنون الجميلة بدمشق لفترتين، وشغل موقع عميد الكلية عام 2005، وفي وقت لاحق تولى موقع عميد كلية الفنون الجميلة في السويداء، وإضافة إلى عمله التعليمي والإداري وتطوير تجربته الشخصية الإبداعية، ألَّف عبد الكريم فرج ثلاثة كتب مهمة عن فن الحفر، وقدّم الكثير من البحوث والدراسات الفنية لمجلات ثقافية ومجلات مختصة بالفن التشكيلي، وخاصة مجلة (الحياة التشكيلية) وقد كان أحد أعضاء هيئتها الاستشارية، يضاف إلى ما سبق مشاركاته الثرية في الندوات الفنية، والتي كان من دواعي سعادتي أني شاركته بعضها، وآخرها ندوة (قامات في الفكر والأدب والحياة) استضافنا فيها الدكتور إسماعيل مروة الصيف الماضي للحديث عن الفنان المعلم فاتح المدرس، وأتمنى أن يستعيد الدكتور إسماعيل ما قاله عن الدكتور فرج في تقديم الندوة.
يحفل التاريخ الشخصي للدكتور عبد الكريم فرج بالأعمال الفنية المتميزة، وبالمشاركات المهامة بمعارض فردية وجماعية وملتقيات إبداعية في سورية وبولونيا ومصر وفرنسا وإسبانيا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا وبنغلادش والكويت والأردن والإمارات العربية، وله في المتحف الوطني بدمشق ثلاث لوحات تحمل أسماء: المجد، دمشق، وحفنة من تراب الشام، كما أخبرتني السيدة هيام دركل الأمينة السابقة لقسم الفن الحديث.
كان العمل مع الدكتور فرج، والحديث معه، متعة حقيقية بفضل الخصال الشخصية الكثيرة التي عُرف بها كوضوح الرأي ووفرة المعلومات والصراحة الممزوجة بالتهذيب واللطف واحترام رأي الآخر، و التزامه بوعوده ومواعيده، ومنها أنه كان يسلم مقالته لمجلة (الحياة التشكيلية) بانتظام دقيق، فما أن يُنجَز عددٌ منها حتى يرسل مقالة العدد التالي، ومع إنجاز العدد الأحدث أرسل مقالتين دفعة واحدة، وكانت المرة الأولى التي يقوم بذلك …. والأخيرة.
ربما أراد أن يستمر في العطاء وقتاً أطول رغم رحيله.
إضاءات- سعد القاسم