إذا ما فقد العالم عينه الثانية تحول إلى (سيكلوب) من نوع جديد لا يعود ينظر إلى حياته على الأرض إلا من خلال منفعته، ومصالحه الاقتصادية بالدرجة الأولى، وهيمنته على الآخر ما دام هذا الآخر هو أضعف منه، أو الصدام معه إذا ما كان بالتالي على الدرجة نفسها من القوة، والمجابهة.. فإلى أين يسير هذا (السيكلوب) ذو العين الواحدة في قمة رأسه؟ أم أن عيناً أخرى نبتت له في الخلف من ذلك الرأس جعلته لا يطمئن لمن يدير له ظهره فيتوقع منه أن يغدر به، فإذا هو يبادر إلى فتح معركة بقاء الأقوى، وليس الأصلح؟ بل إنها المعادلة القائمة بالفعل الآن في البقاء للأقوى لا للأصلح.. وكأن العين إذا ما اعتلت الرأس استشرفت القادم، وإذا ما انفتحت في مؤخرته نظرت إلى ما يجري خلفه، وهي إذ تشترك مع الأخرى الأعلى تعيدان معاً قياس المسافة بين ما كان من أمرٍ، وما سيكون عليه.
ولكن.. هل حقاً أصبح العالم سيكلوباً بعين واحدة؟ وهو ينظر متلهفاً إلى مسار التطور المتسارع في مجال العلم، والابتكار، وقد نسي إنسانية الإنسان التي باتت آلة الذكاء الصناعي تستلبها لينظر بمنطق العين الواحدة إلى المنفعة فقط.. بينما التقنية الحديثة بما تفرزه، وبما تحققه الشبكة الذكية ممثلة بمواقعها الإلكترونية، وبإمكاناتها، وخدماتها اللامحدودة، واللامتناهية في مجالاتها، أقول بينما هي كذلك تصبح في زمن (كورونا) ملكة متوجة على عرش المال، والأعمال، والثروات الكبرى التي تتعاظم أكثر فأكثر من خلالها لتصل إلى مئات المليارات.. لكنه الربح غير العادل مقابل الخسارة المفجعة، والمؤلمة لدى قطاعات أخرى من الاقتصاد، والدائرة تتسع يوماً بعد يوم، ودخان الحرائق الأسود الكثيف يبلغ حتى أبعد الأجواء.. وضحايا جدد يقعون باستمرار في أفخاخ جديدة، ومتجددة.
والخسائر في الجوانب المخفية من قطاعات الاقتصاد العالمي قد تكون أكبر مما يطفو على السطح الآن، وتظهر آثاره جلية واضحة كحال قطاعي السياحة، والطيران، ومعهما بعض الصناعات، وما يقع أيضاً تحت بند الرفاهية، لتظهر النتائج الكارثية لما حل بها جميعاً فيما بعد، وليس قبل انقضاء وقتٍ ربما ما هو بالقريب.
وها هو البنك الدولي يعلن في تدوينة له أن: “جائحة كورونا ستخلف ندوباً اقتصادية دائمة في أنحاء العالم الذي أصيب بأسوأ أزماته”.. وكأنه يُقرّ بهشاشة هذا الاقتصاد حتى لدى الدول العظمى فما بالنا بالبلدان النامية، وما تعانيه من سلب لثرواتها، وإثارة الاضطرابات السياسية فيها، والصراعات، حتى تظل في دائرة التبعية للقوى العظمى، فتفقد بالتالي قدراتها على النهوض بنفسها لتصبح في مصاف الدول المتقدمة، وتحقق اكتفاءها الذاتي في مجالات منها الصناعة، والزراعة، والتجارة، والاستثمار، والابتكار.
عندما سيتغلب العالم على جائحة القرن الأولى، ولا ندري ما إذا كان هناك ما سيتبعها من جوائح جديدة من النوع ذاته، أو من أنواع أخرى، فهل سيخرج وهو ينفض جناحية مما علق بهما من آثار رماد جائحة غامضة لم تنجلِ أسبابها بعد، كما من رماد الجشع، والاستغلال المحكومين مسبقاً بأفكار المادة في الربح، والخسارة، وقد تنامى كل منهما بخاصة تجاه الشعوب الفقيرة؟.. لعل الحلول المنفردة لن تعود شافية في ظل إصابة عالمية لم توفر أحداً، ولعل ترياق الوقاية لن يعود مجدياً ما لم يكن عادلاً لا يُستثنى منه أحد.
وهذا العالم ما لم ينظر إلى ما اقترفه بحق نفسه، ويعود إلى فطرة الإنسان بعيداً عما تجرفه إليه الحضارة المعاصرة فلا شك أنه سيفقد عما قريب عينه الثانية ليتحول إلى (السيكلوب) عملاق الأساطير اليونانية، والإغريقية، صاحب العين الواحدة التي أصبحت لا ترى إلا من زاوية واحدة، بينما كانت في الاسطورة كافية لعملاقها لأن يعيش بها بشكل عادل، بل إنها كانت أكثر كفاءة من عينين اثنتين نملكهما نحن في زمننا المعاصر، ولا نرى بهما سوى قيم المادة التي باتت تحكم حياتنا ومصيرنا.
(إضاءات) – لينـــــــا كيـــــــــــلاني