قبل سنوات كثيرة، كنت شاهداً على لقاء تعارفي أول بين اثنين من النقاد، كان أحدهما قد انتهى للتو من قراءة نص كتبه الآخر فاستدار إليه قائلاً بلهجة لا تخفي استعلاءها:
– أنا لا أكتب بهذه اللغة البسيطة.
فما كان من الثاني إلا أن أجابه دون تردد :
– لقد احتجت إلى سنوات حتى استطعت أن أكتب بهذه اللغة الواضحة..
تستحضر الذاكرة مع هذا الموقف موقفاً آخر حصل قبل ذلك بسنوات حين التقى الدكتور فؤاد زكريا جمهور دمشق في مكتبة الأسد. في ذلك اللقاء أكد الدكتور زكريا انحيازه لجانب الوضوح في الكتابة، راداً الغموض فيها إلى أحد ثلاثة أمور، أولها: العجز اللغوي للكاتب، وبالتالي عدم قدرته على استخدام اللغة لإيصال فكرته أو أفكاره. وثانيهما: رغبة الكاتب في إظهار تميزه على القارئ من خلال استخدام صياغات يصعب على القارئ إدراك ما ترمي إليه. وثالثهما: التباس موقف الكاتب وهنا يكون النص الغامض ترجمة لهذا الموقف الملتبس.
ويشهد تاريخ الدكتور زكريا على أنه كان أميناً لقناعته تلك، فأفكاره ومواقفه كانت تقدم نفسها جلية واضحة مهما واجهت من صعاب، وهو ما أكسبه احترام حتى خصومه الفكريين والسياسيين، وبعضهم كان يستند إلى دعم قطاع واسع من الرأي العام. ومع ذلك لم يجد الراحل حرجاً في مساجلتهم، مستنداً إلى ثقافته الموسوعية، وتفكيره العقلاني، ومنهجه العلمي، ولغته الفلسفية الواضحة، حتى قيل فيه :إنه «الرجل الذي غامر بإنزال الفلسفة من عليائها التاريخي الموروث إلى صخب الشارع ومعاركه الصغيرة والكبيرة في نزقه العربي الشهير». ويمكن إضافة إلى ما سبق القول :إنه أحد أكثر الفلاسفة العرب المعاصرين شهرة، وتكفي دلالة هنا أن كتابه (التفكير العلمي) قد بيعت منه عشرات ألاف النسخ في البلاد العربية، وهو أمر غير عادي بالنسبة لكتاب فلسفي، يفسره فقط الكتاب ذاته وقدرة صاحبه الهائلة على استخدام لغة واضحة مقنعة.
يمثل تقديم الدكتور زكريا لكتاب (التفكير العلمي) نموذجاً عن لغته الواضحة تلك فيقول: «أصبحت حياة المجتمعات الحديثة في سياستها وحربها وسلمها وجدها ولهوها، منظمة تنظيماً علمياً منضبطاً ودقيقاً ولم يعد في وسع مجتمع لديه أدنى قدر من الطموح أن يسير في أموره بالطريقة العفوية التي كانت ساندة في عصور ما قبل العلم، وإذا كنا في الشرق – بوجه خاص- نسمع بين الحين والحين أصواتاً تحن إلى العهد التلقائي، في أي ميدان من الميادين، فلنكن على ثقة من أن أصحاب هذه الدعوات إما مغرقون في رومانسية حالمة، وإما مدفوعون بالكسل إلى كراهية التنظيم العلمي الذي لا ينكر أحد انه يتطلب جهدا شاقا، وإذا كانوا غير مقتنعين حتى اليوم بجدوى الأسلوب العلمي في معالجة الأمور، وإذا كانوا لا يزالون يضعون العراقيل أمام التفكير العلمي حتى اليوم فليفكروا لحظة في أحوال العالم في القرن القادم الذي سيعيش فيه أبناؤهم. ومن هذه الزاوية فإني أعد هذا الكتاب محاولة لإقناع العقول- في عالمنا العربي- بأن أشياء كثيرة ستفوتنا لو امتثلنا للاتجاهات المعادية للعلم، وبأن مجرد البقاء في المستقبل، دون نظرة علمية وأسلوب علمي في التفكير، سيكون أمرا مشكوكا فيه».
ومع أن الراحل قد اشتهر بكتاباته الفلسفية، فإن الثقافة بتنوعها مثلت الميدان الرحب لعطائه. وكان أول كتبه (التعبير الموسيقي) وقد صدر عام 1956، وأحد الكتب التي ترجمها كان (الفن والمجتمع عبر التاريخ) وهو مرجع لا غنى عنه لكل مهتم بالثقافة الفنية التشكيلية. وقد تجلى اهتمامه الثقافي بتأسيسه سلسلة (عالم المعرفة) التي ظل مستشاراً لها حتى رحيله قبل إحدى عشر سنة.
تذكر هدى الرحيل أنه قال لها في بداية عملها معه في هذه السلسلة :
« يا هدى.. لازم يكون عندك عينين: عين على النص والمحتوى، وعين على القارئ الغلبان».
إضاءات – سعد القاسم