في سابقة نادرة قامت بها جريدة (نيويورك تايمز) الأميركية تصدرت صور الأطفال الشهداء في (غزة) صفحتها الأولى تحت تعليق يقول: إنهم كانوا مجرد أطفال، وأنهم كانوا يريدون أن يصبحوا أطباء، وفنانين، وقادة، وهذه هي قصة كل واحد وواحدة منهم، بهذه الافتتاحية المؤثرة ظهرت الصحيفة لجمهورها، ولأول مرة في تاريخها ربما بشكل محايد، لكنه صادم بآنٍ معاً إذ يتعرض للحقيقة السافرة التي لا تقبل أي تزييف عن تلك الحياة القصيرة لهؤلاء الشهداء، والتي لم تنل من الوقت ما يكفيها لنسج أحلامها لمستقبل كان من المفروض أنه قادم.
ولكن ماذا عن الذين انتُشلوا من تحت أنقاض المباني التي هدمتها إسرائيل فوق رؤوس أصحابها.. أليسوا هؤلاء أيضاً مجرد أطفال؟.. وقد نالت منهم المأساة الفلسطينية في ملحمتها الممتدة على مدى أجيال.. ماذا عن آمالهم، ومستقبل أيامهم بعد الذي شهدوه من هول الصدمة، وفقد الأسرة، وغياب الأصدقاء، والأقران، وتشوه الأجساد، وجراحها؟.. بل ماذا عن آلامهم أليسوا بحجم اتساعها أصابتهم، وضريبة عليهم دفع أثمانها مهما كانوا صغاراً، ومهما كانت أعوادهم غضة وطرية؟.. فهل وقفت المأساة عند صور مَنْ استشهدوا أم أن لها امتدادها عند مَنْ نجى بحياته؟ ألا يستحق هؤلاء أيضاً أن تتصدر صورهم صفحات الإعلام الغربي كشهداء أحياء؟
ورغم قساوة كلمة (الأطفال الشهداء) إلا أنها باتت تُقال لأن أغلب الضحايا هم مجرد أطفال حلموا أن تكون لهم حياة إلا أنهم جُردوا منها بآلة قتل لم تأخذ في حسبانها عدم قتل الطفولة في مكان نصف سكانه هم من الأطفال، والبيوت تتلاصق في بقعة هي من أكثر أماكن العالم في كثافتها السكانية.
مشاهد اختزنتها ذاكرة كل من رآها في الصور، أو عبر الشاشات.. صور لم نتوقع أن نراها يوماً في أطفالنا.. ولكنا أخطأنا عندما اعتقدنا أن أطفالنا لن يحصل لهم الذي حصل، ترى هل أخطأنا أيضاً عندما غرسنا فيهم قيم الحق، والخير، والجمال، بينما عدونا لم يغرس في أطفاله سوى قيم البغضاء، والكراهية، والعدوان؟.. بل أي أطفال أنتم يا مِنْ ترسلون مع صواريخكم أمنياتكم للأبرياء بالموت، والفناء!!.
يا أطفال غزة.. إنكم وإن اكتشفتم المرارة قبل الأوان.. وسُلبتم طفولتكم غصباً عنكم.. وإن مات منكم مَنْ مات.. لكنكم باقون في هذه الأرض عبر أجيال أتت، وأخرى ستأتي من بعدكم.. مغروسون فيها كما الجبال.. ودماؤكم الحمراء الزاهية ما هي إلا ورود وشقائق نعمان، أليس من حق أطفال العالم في الأماكن البعيدة عنكم، وعن معاناتكم، أن يعرفوا ماذا جرى، ويجري لأقران لهم في أرض فلسطين، وما هو الظلم الذي يقع عليهم سواء في الحياة، أو في الممات؟.. وإذا قام مَنْ كانوا أطفالاً بالأمس من الاسرائيليين بارتكاب مجازر قانا، وصبرا، وشاتيلا فما بالنا بأطفال اليوم الذين خبروا التعامل مع أدوات التكنولوجيا الحديثة، وتطوروا معها، فماذا سيكون من شأنهم في المستقبل؟.. إلا أن صورة (العربي المشنوق) التي صنعت منها إسرائيل نموذجاً لألعاب أطفالها منذ عقود لن تعود من جهة أخرى مقنعة لهؤلاء الأطفال الذين غادروا منازلهم فزعين ليختبئوا مع أهاليهم كما اللصوص في ملاجئ، ومبانٍ للحماية فوق أرض اغتصبوها، ولكنهم لم يمتلكوها.
فلعل الصحافة الغربية إذاً، وتلك الشهيرة منها، التي لا تنحاز عادة إلى جانب الفلسطينيين، لعلها بعد الذي حصل لن تعود مغمضة العينين على صفحاتها الأولى، أو الأخيرة.. ولعل الأخبار الصادمة تكون سبباً لهدم أسوار (غيتو) الأخبار المضللة التي حُبست الضمائر، والعقول وراءها لآجال طويلة.
* * *
(إضاءات) ـ لينــــــــا كيـــــــــلاني ـ