الثورة أون لاين – د. ثائر زين الدين:
لا يُشبهُ هذا الشيطان غيره من شياطين الأدباء؛ فهو ليس كشيطان غوتيه في “دكتور فاوست”، ولا “كشياطين” دوستويفسكي، أو شياطين بولغاكوف، وأهمهم “فولند” في “المعلم ومرغريتا”، أو شيطان خوسيه ساراماغو في “الإنجيل يرويه المسيح” أو سواهم؛ وهم أكثر مما نتصوّر؛ فهذهِ الشخصيّة مُحببة للكتّاب، وقادرة على النهوضِ بغاياتٍ معنويّة وفنيّة مُدهشة.
لا، إنَّ شيطان أنطون تشيخوف في واحدة من قصصه القصيرة أبسط من أولئك جميعاً، وأكثر وضوحاً وعفويّةً وتلقائيّةً، ولو شئنا أن نبحثَ في الأسباب لوجدناها دون كثير مشقّة، ولَكَانَ الأمرُ ممتعاً ومفيداً ولا سيّما للمعنيين بالنقد الأدبي، ولكنها ليست الغاية التي نقصدها الآن، ولا سيّما في زاويةٍ صغيرةٍ أو مقالٍ مقتضب.
قصّة تشيخوف التي أعنيها هي: “حديثُ رجلٍ مخمورٍ وشيطانٍ صاحٍ”، المتقاعد “لاخماتوف”؛ بطل القصة يجلسُ إلى طاولته غارقاً في الشراب، حتى إذا بلغَ الكأسَ السادسة عشرة ومضى يفكِّرُ في “الأخوّة والمساواة والحريّة”، وهي- بالمناسبة – الأقانيم الثلاثة التي ضمَّها شعار الثورة الفرنسيّة، تراءى له الشيطانُ وهو ينظرُ إليه عبر زجاج المصباح، كان شاباً أسود البشرة، وسيماً عيناهُ مُعبِّرتان لكنهما حمراوان، جسدهُ مُغطّىً بالوبر الأخضر، وثمّةَ قرنان نبتتا في رأسه؛ مع أنّه أعزب – يقولُ الراوي ساخراً- وله مخالبُ عوضاً عن الأصابع، وحافرا حصانٍ بدلاً من القدمين وذيلٌ ينتهي بسهمٍ.
وإذا كان لاخماتوف قد اضطربَ في البداية، لكنّه سرعان ما تذكّر أن الشياطين الخضر غالباً ما تظهرُ لمن يعاقر الخمرة، وهي ليست مؤذية البتّة.
لعل أجمل ما في القصّة هو ما يبوحُ به الشيطان على حرجٍ وحيرةٍ بعد أن يشربَ بدورهِ كأساً من الفودكا، ويحاول أن يجيب عن سؤال لاخماتوف: “ما هو عملكُ؟”:
” في الحقيقة، ما من عملٍ محدَّدٍ أقوم به، في الماضي كان لدينا ما نفعلُه؛ لقد أغوينا البشر، حرفناهم عن طريق الخير فساروا في طريق الشر… أما عملنا اليوم-والحديثُ بيننا- فلا يستحقُ أن نبصقَ عليه؛ ما عاد هناك طرق خير؛ ولم يبقَ ما يستحقُ الإغواء، أضف إلى ذلك أن البشرَ أصبحوا أكثرَ دهاءً منا…
وكيفَ لكَ أن تغوي إنساناً دَرسَ في الجامعةِ العلومَ كلَّها؛ وعبرَ من خلال الماءِ والنارِ والأنابيب النحاسيّة! كيفَ لي أن أُعلِّمكَ سرقةَ روبلٍ واحدٍ إذا كنتَ، ومن دون مساعدتي، قد سرقتَ فعلاً آلاف الروبلات؟”، وأمام هذه الإجابة نرى لاخماتوف – مثلنا نحن القرّاء- يتساءلُ عمّا يفعله هذا الشيطان “المسكين” الآن بعد أن تغيّرتِ الناسُ كل ذلك التغيّر! يجيبُ ذو الوبر الأخضر:” نعم مهمتنا السابقة أصبحت محض ذكرى، لكننا مع ذلك نجدُ ما نفعله… إننا نغوي السيدات الرائعات، وندفعُ الفتيان إلى نظم الشعر، والتجارَ المخمورينَ إلى تحطيم المرايا… في السياسة والأدبِ والعلوم ما عدنا نتدخّل… نحن لا نفهم شيئاً مما يحدث…
كثيرون منّا يعملونَ في صنع الألغاز والألعاب اللغويّة، وثمّة من غادروا الجحيم ودخلوا في الناس… هؤلاء الشياطين المتقاعدون تزوّجوا من تاجراتٍ ثريّات ويعيشون الآن في أفضلِ حال. بعضُ أولئك يعملون في المحاماة والقضاء، وبعضهم الآخر يُصدِرُ صُحفاً، وهم الآن بشرٌ عمليونَ ومحترمون جدّاً!”.
هل يكتفي لاخماتوف بما حصلَ عليهِ من معرفةِ عالم الشياطين؟ لا لن يفعل، فالليلُ طويل والحديث شيّق، والسكرانُ لا يُطيقُ الصمت، ولهذا يتابعُ طرح الأسئلة؛ وهذه المرّة يروقُ له أن يسألَ الضيفَ عن وضعه المادي ومعيشته. فيفاجئنا الشيطان بجوابه من جديد:
” الوضعُ على حاله يا سيدي، لم يتغيّر… الشقّةُ والكهرباء والتدفئة للدولة… لا نتقاضى رواتب، ونحن نُعَدُّ فوق العمل الرسمي، ومنصب الشيطان منصبٌ فخري. بشكل عام، وبصراحة، لو جُلتَ العالم كلّه فحياتنا سيّئة، ولولا فضل الناس، الذين علمونا أن نتقاضى الرشوةَ، لكنَّا قد انتهينا منذ زمنٍ بعيد… إننا نعيش على دخلنا الشخصي فحسب…”
ويملأُ لاخماتوف كأسَ الشيطان من جديد، لقد أحبَّهُ، ومع الخمرةِ استرسلَ الضيفُ في الحديث عن أسرار جهنم… شربَ وبكى… سمح لاخماتوف له أن ينام عنده؛ فاتخذ هذا من الموقدِ مكاناً له، وبحلولِ الصباحِ كان قد اختفى.