تسريبات لمئات الألوف من بيانات الحسابات الشخصية لرواد مواقع التواصل الاجتماعي تباع بملايين الدولارات إلى شركات خاصة تترصدها فتعيد استخدامها بما يحقق لها أهدافها.. عملية تشبه إعادة تدوير بعض المنتجات، إلا أن الفارق بين هذه وتلك هي أنها عملية تنتهك خصوصية الأفراد في بياناتهم التي توفر أكبر قدر من المعلومات عنهم، وبذلك يسهل اصطياد أصحاب الحسابات على المواقع فرادى وكلٌ حسب ميوله، واتجاهاته في الحياة.. ومن جهة أخرى فإن سبر الميول هذا من خلال المعلومات المتوافرة عن الأفراد تجعل من ترشيح ما هو من ضمن اهتماماتهم أمراً سهلاً، ومتوافراً، من خلال الدعاية، والإعلان حتى ليكاد المرء يضيق ذرعاً بما يبرز منها أمامه على صفحات حساباته، أو أنه يصل إلى حالة الغضب مما يطارده من موضوعات، ودعايات.
هذا ما يجري في غفلة من الناس وهم يسجلون مبتهجين دخولهم المتكرر إلى حساباتهم لدى مواقع التواصل، وغيرها من التطبيقات التي يستخدمونها، لكن ما يجري على مرأى، ومسمع منهم، وفي العلن هو المحتوى الذي تزدحم به الصفحات مما هو كاذب أكثر منه صادق.. والتأثير يمتد من فرد إلى آخر سواء سلباً، أم إيجاباً.. وموقع التواصل الأشهر يحكم أمزجة مستخدميه بانتقائية، وبمعايير غير عادلة من خلال ما يسمح بنشره، وما لا يسمح به، فيحذفه وهو ينبه صاحب المنشور أن عليه ألا يكرر خطأه، وإلا امتدت مدة عقابه بعدم السماح له بأي نشر على صفحته لفترة أطول.. والخوارزميات المعدة لذلك لا تخطئ في ترصّد عبارة، أو كلمة ما تتنافى مع سياسات الجهات التي أعدّتها، والإيديولوجيات التي تنتظمها.. لتصبح تلك المواقع أشبه ما تكون بدول مستقلة لها سياساتها الخاصة بها، وقوانينها الضابطة التي لا تساهل معها، ولا يجوز للمواطنين فيها أن يتمردوا عليها، أو أن يتجاوزوا حدودها، وأسوارها.
أما الجائزة الكبرى لتلك المواقع فهي تأتي من خلال استهداف الأطفال، والمراهقين، وهي أولوية لا استغناء عنها لأنها تشكل أجيالاً مستقبلية يسهل الوصول إليها، والتأثير عليها بما يعود بالنفع المادي على الشركات الكبرى، ولا يهم عندئذ ما يتعرض إليه هؤلاء الصغار من مخاطر نفسية، وصحية، تضر بهم عاجلاً أم آجلاً ماداموا مصدراً وفيراً للربح، ودون أي مسؤولية عن السلامة العامة.
وأكثر ما يثير الاهتمام أيضاً هو وصول شريحة من الناس من خلال مواقع التواصل، وغيرها إلى قدر من الشهرة ربما ما كانت لتتحقق لهم من دونها، وبعيداً عن شهرة مَنْ يتفوق في العلم، والبحث، والأدب، والفن.. وعلاوة على ذلك هناك مَنْ يحصل على الأموال أيضاً، ويجني أرباحاً ما كانت في الحسبان.. لكن ما هي هذه الشهرة الزائفة، وما هي مقوماتها الحقيقية، وهل ستعيش مع أصحابها، أم أن مشاهير جدد من هذه الفئة يتوالدون، ويتكاثرون كل يوم ليمحو أحدهم أثر من سبقه بطرفة عين؟..
ومادامت الأجهزة الذكية لم تعد تفارق أيدينا صغاراً، وكباراً فذلك لأن ثقافة التسلية، والترفيه، أصبحت سائدة بيننا، بل مكتسحة تشغل كل دقيقة وثانية، وما عاد أحد بقادرٍ على أن يستسلم لإيقاع الحياة الطبيعي دون ذلك الضجيج الذي يصدر من بين الأصابع وهي تضغط على أزرار الرقمية.
لكن صندوق (باندورا) الذي تخرج منه الشرور سرعان ما فتح فمه واسعاً لحظة أصيبت مواقع التواصل الاجتماعي بوعكة مفاجئة أوقعتها في سكتة قلبية دامت لساعات قبل أن تصحو وتعود للخدمة من جديد، وإذا بالأعين تنفتح عليها أيضاً، وبالأصوات تعلو مطالبةً بالحدِّ من سطوة الشركات الكبرى التي تملك مفاتيح الرقمية ومغاليقها وهي تتعملق، وتتغول، حتى لا تعود هيمنتها على العقول تتجاوز ما هو مسموح به من الحدود.. وأقوال الشهود تتلوها أقوال، والوثائق تثبت الأخطاء ولا تنفيها، وتدين ولا تبرئ تلك الشركات العملاقة فيما تخفيه عن الحكومات من معلومات تؤكد ما تتسبب به من أضرار للناس على الرغم مما تقدمه من خدمات تفيد بها الصالح العام، إلا أن الإيجابيات مهما بلغت لا يمكن لها أن تحجب الآثار السلبية التي بدأت تظهر علانية، والربحية مهما بلغت من الأهمية لا يجوز لها أن تتجاوز على القيم الأخلاقية.
شفافية أصبحت مطالبة بها شركات الرقمية الكبرى، لدرء كوارثها، ولإغلاق صندوق الشرور فلا يعود يفتح فمه ليبتلع صغارنا قبل الكبار مادامت الرقمية قد أصبحت واقعاً معاشاً، وطريقاً في مسيرة التطور لا سبيل للعودة منها.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيــــــلاني ـ