لقد ارتقى الإنسان المعاصر بوعيه حتى بلغ أعلى درجات الإبداع، والابتكار، والتطور العلمي الذي دخل إلى كل مجالات الحياة من زراعة، وصناعة، وتجارة، وعمارة، وطب، وغيرها.. لكن شيطان العلم ظل مختبئاً في أروقة مخابره، وبين طيات كتبه، وأوراقه، يبحث عن نافذة له يتسلل منها إلى أن عثر على ساحة الوعي ليدخل إليها.
أجل إنه الوعي.. تلك الحالة من اليقظة العقلية التي تجعل المرء يستجيب للمؤثرات التي تحيط به، فإذا بذلك الشيطان يبتكر أساليبه ليدخل إلى هذه المؤثرات التي لا نستثني منها دائرة الإلكترون وهي لم تعد مغلقة على ألعابها، أو مخدراتها، أو وسائل تواصلها، بل أخذت تتعداها إلى وسائل تكنولوجية أخرى جديدة ستؤثر على المجتمع الإنساني برمته بقدرتها على تغييب الوعي، والإدمان بدرجاته المختلفة.. فالألعاب الإلكترونية مثلاً التي تستحوذ على عقول الصغار، والمراهقين، وقد لا يُستثنى منها الكبار أيضاً، أدت إلى حالة من الإدمان شأنها شأن المخدرات الرقمية التي تصل بمتعاطيها إلى حالة من تغيّب الوعي بالذات لصالحها، وإدمانها يعززه الجسد بمتعة زائفة، كما جديد الجديد الذي يظهر بين يوم وآخر على صعيد منتجاتها.
وسائل معاصرة للتسلية، أو التواصل بين الأصدقاء تصادر أوقاتنا تماماً كما تفعل مع تيار الوعي لدينا، فإذا بنا نصطدم بآثارها السلبية التي تتراكم قبل أن تظهر إلى العلن ليقف أهل الاختصاص عندئذ في تصدٍ لها، ومحاولة لنفيها، والتغلب عليها.. فالتنمر مثلاً الذي أكثر ما ينشط على ساحات التواصل الاجتماعي شكّل ظاهرة لم تكن شائعة فيما سبق إلا فيما ندر، لكن سوء الاستخدام لهذه الوسائل، والتعامل معها بانفعال غير مبرر، وباستسهال وبأسماء وهمية أحياناً، ودون حساب، ولا عقاب من قوانين رادعة، قد فاقم من تلك الحالة.
وكأن تلك الأدوات التكنولوجية الحديثة تدخل إلى عقولنا لتبرمجها حسبما تريد، ونحن لا نعي ما تفعله إلا بعد فوات الأوان، أما الثمن الذي يُدفع في هذه الحال فهو الإخفاق في الابتعاد عنها، بل إنه الانغماس فيها أكثر فأكثر، إلا عند إدراك ما يختبئ وراء الأشياء فيصحو الوعي عندئذ.. ولكن ما سيكون عليه حال الصغار من الأجيال التي تفتحت على استخدام هذه الأدوات حتى باتت لا تنفصل عنها؟ وماذا سنفعل إذا كنا غير قادرين على انتزاع الأجهزة الذكية من الأيدي الصغيرة لأنهم سيعتبرون ذلك تعدياً على حريتهم، وانتقاصاً من حقوقهم، وقد تستبد بهم موجات من الغضب، والرفض إذا ما تمكنا من لجم تلك الساعات التي تُهدر وراء الشاشات الصغيرة، وهي تجري كمهرٍ جامحٍ يقفز فوق حواجز الأمان بينما الدعايات، والإعلانات المغرضة تستهلك المشاعر بسرعة، وتحفز الرغبات بقوة لتشتري، أو لتنتشي، أو لتنحرف بالسلوك، مما يستدعي معه جهداً مضاعفاً، ورقابةً واعيةً من الأسرة تتأكد معها سلطة الكبير على الصغير، كما يستدعي بالتالي دور مؤسسات الدولة، ومعها الإعلام لتكون فاعلةً في التوعية، والتوجيه الصحيح بهدف وضع الحدود الفاصلة بين ما هو من الخطأ، وما هو من الصح، ومن أسس القيم، والأخلاق.
إلا أن التأثيرات السلبية مهما تفاقمت فهي لا تنفي الدور الهام، والإيجابي للتقنيات الحديثة، وما جلبته معها من فوائد، ومنافع لم تغيِّب الوعي بدورها بل إنها ارتقت به لما يحفزه باتجاه مزيد من الابتكار، والإبداع، وتوفير الوقت، والجهد، والمال، وتسهيل صعوبات الحياة، واستثمار إمكانيات الأفراد في شتى المجالات، ولتحقيق الغاية المثلى منها في الريف كما في الحضر بغض النظر عن الاستهلاك العنيف غير الواعي لها، والذي يعود بانتكاسة نفسية، واجتماعية، وصحية سببها الرقمية، وعوالمها الموازية.
إنه ثمن الحضارة الباهظ الذي يُدفع.. وبمقدار ما نعي إيجابيات ما هو بين أيدينا بمقدار ما نختصر نسبة كبيرة من الصعوبات، إلا أننا قد ننعطف نحو السلبيات مما يستدعي معه سرعة تصحيح المسار عند أقرب نقطة للعودة، أو قبل الوصول إلى النهاية المسدودة لطريق حياتنا المعاصرة.
(إضاءات) ـ لينـــــــا كيـــــــــلاني ـ