الثورة-أديب مخزوم:
أستضافت غاليري زوايا في دمشق ـ قصاع ، معرض لوحات الفنان أحمد برهو، التي وجدنا فيها عودة إلى التشخيص، على خلفيات تجريدية، هو الذي أبرز في معارضه السابقة ميلاً نحو التجريد اللوني الخالص أو المطلق.
هكذا أصبح يتعامل في لوحاته الأحدث مع ألوانه بدرجاتها المحددة والمتفاوتة بين السواد والبياض، بمرونة أكبر مع الوجه والعنصر الإنساني، مستعيداً روحه وحركته وإيقاعاته الدالة عليه بخطوط شديدة الاختصار والتبسيط . وذلك لإيجاد بعض الفروقات في تركيب السطوح اللونية والأجواء الكثيفة والرمادية والداكنة في أحيان كثيرة ، للوصول الى المزيد من الاختزال والاختصار ، في خطوات صياغة العناصر الإنسانية في فضاء التجريد اللوني الهندسي والانفعالي في آن، إلى الحد الذي يجعل بعض لوحاته تخرج أحياناً عن التجريد اللوني العفوي الهندسي، الذي تظهر من خلالها إيقاعات التشكيلات الأفقية والعمودية، ومن هنا تأتي الحساسية البصرية في لوحاته الأحدث ، التي تشكل امتداداً للوحاته السابقة من ناحية التركيز على الجانب التقني، الذي يعطيها خشونة ملمسية تتوافق مع ثقافة فنون العصر .
ومن أجل الوصول إلى حالة متداخلة بين المرئي والمحسوس، يعتمد برهو على مبدأ الرسم التلقائي والعفوي، من خلال الانحياز نحو مزيد من الحساسية في تركيب المساحات وطبقات اللون، فالشكل الإنساني على سبيل المثال يتحول من حالة إلى حالة، في ظل الاقتراب أو الابتعاد عن الصياغة التعبيرية . فهو أحياناً يميل إلى التعبيرية التي تحافظ على بعض ملامح أو إشارات الشكل أو المشهد، وأحياناً أخرى يزاوج بين مؤشرات العناصر العفوية المثبتة في جزئيات اللوحة، وبين مؤشرات التجريد اللوني، حيث لا فواصل ولا حدود هنا بين حضور ملامح الأشكال وبين غيابها الجزئي أحياناً في بعض أقسام اللوحة. ومن خلال هذا التداخل بين مؤشرات الأشكال المنظورة والعناصر اللونية التجريدية، يصل إلى مساحات متجاورة ومتداخلة، تأتي على هيئة إيقاعية ، وتتجه نحو لغة التلميح ، القادر على اختصار العناصر إلى أقصى حد.
وهو هنا ينوع في المواد والتقنيات (مواد مختلفة ـ ميكست ميديا ) ويرسم بحرية بالفرشاة وبمشحف الرسم ويلصق قطعا قماشية على سطح اللوحة أحياناً، ويغوص في تجربة تعبيرية متحررة، تستعيد إيقاعات الأشكال والتكاوين التجريدية وما تعكسه من تداعيات عفوية تزيد من أجواء الحرية والتلقائية.
ويمكن القول إن ظهور اللمسة العفوية الأكثر ارتباطاً بحالات الانفعال الوجداني، في لوحات أحمد برهو، لم تأتِ إلا نتيجة البحث المستمر والمتواصل، أو نتيجة اختباراته المتتابعة، حيث يظهر مرونة رموزه التعبيرية التلقائية، التي يحكي من خلالها حكايته مع الواقع، حيث تدل هذه اللوحات على عفوية في التنفيذ والتلوين وشحن عناصر التشكيل بعاطفة نامية وشغف تلقائي، يتعامل مع أشكال الواقع بمزيد من العفوية والتلقائية والصدق. إذ الأهم بالنسبة له ، تداخل وتجاور المساحات والإيقاعات اللونية الحاملة خلاصة بحوثه وتشكيلاته على مدى أربعة عقود، والمشغولة بكتل لونية تتجه إلى الكثافة مرة أو التقشف مرة أخرى.
وهذا يعني أنه استعاد أجواء مغامرة اللون وهواجسه التقنية الخاصة، ووصل إلى تشكيل تجريدي لصورة تعبيرية مستقاة من المشاعر، كل ذلك بلوحات تجمع أجواء الطرب وإيقاع النغم وشاعرية اللون، الذي يعرف كيف يعزف على أوتار المشاعر، مع الإبقاء على الحركة المتداخلة في كل الاتجاهات ، والتي تعطي لوحاته الدفق اللوني التلقائي وإشارات لونية موسيقية ، تكسر صفاء المساحة التي اعتمدها وحدد من خلالها إشارات الأشكال وبريقها الضوئي، ومن أجل ذلك تقترب لوحاته من ضفاف التجريد اللوني الجزئي ، وقد يصل إلى التجريد الخالص أو المطلق.
كأنه يرسم أحاسيسه الملونة ليكشف عن روح الحركة اللونية، التي تسري كتموجات وإشارات لونية متتابعة ومتراقصة ، وبعيدة كل البعد عن رتابة المعالجات المستهلكة والإعلانية والإغراءات الاستهلاكية التجارية.