تنعكس العلاقات بين الدول على الأفراد بمستويات مختلفة ، لكنها غالباً ترتبط طرداً مع حسن تلك العلاقات أو سوئها ، وإن كان لا يوجد رأي حاسم في هذه العلاقات لتبقى المواقف العقائدية والسياسية تلعب الدور الأكبر في تحديد طبيعة العلاقات بين الأفراد في مختلف أنحاء العالم ، وهنا قد تتجلى هذه الحالة أكثر وضوحاً بين الأفراد الذين يتعاطون بالشأن العام .
ففي نهاية عام ٢٠١٢ كنت على موعد مع زيارة للصين كصحفي متفرد من بلدي بين مجموعة صحفيين عرب مدعوين من جانب وزارة الخارجية الصينية لتغطية فاعليات المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني والاطلاع على أسلوب وآلية الحكم في تلك الدولة، وكيفية استلام المناصب العليا في الحزب والحكومة والجيش، وهي تجربة شديدة الغنى للوقوف على ثقافة سياسية لا يعرف العالم غالباً إلا قشورها الخارجية.
كنا اثنين وعشرين صحفياً بمعدل صحفي من كل دولة ، بعضنا يعرف الآخر على صفحات الجرائد أو شاشات القنوات الفضائية ، والبعض بدأ بالتعرف على بعض في بلاد التنين ، ونحن نمثل الدول العربية كلها.
لم نكن وفداً واحداً يتبع منظمة أو نقابة بحيث يترأس أحدنا الوفد ويتقدمنا في الحديث مع المسؤولين الرسميين الذين سنلتقيهم في المدن والمناطق والعاصمة بكين ، الأمر الذي دفعني مع الدكتور عمر نشابة الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت للمناداة برئيس تحرير صحيفة القدس المقدسية ليكون رئيساً لمجموعة الصحفيين العرب، يتقدمنا ويتحدث باسمنا لما لذلك من رسالة نرسلها للصين بأن فلسطين قضية العرب الأساسية التي يجتمعون عليها دون خلاف أو اختلاف، وأن الصحفيين العرب يحملون تلك الراية، وهذا ما حصل دون أي اعتراض، بل لاقت الفكرة ترحيب جميع الصحفيين وخاصة الأستاذ حسن هرماس من المغرب والأستاذ محمد الشريف المستشار الصحفي للرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بو تفليقة.
وهكذا سارت الأمور طيلة زيارتنا التي امتدت أسبوعين كاملين ، كنا خلالهما نتحرك ونتصرف كإخوة التقوا بعد غياب، إلا في حدود ضيقة لم يتحدث فيها صحفي لزميلة له من البلد ذاتها طيلة الزيارة وهي كذلك لم تهتم له، فيما ودعتنا في دبي بطريقة حميمية كبيرة عندما افترقنا عائدين إلى كل من دمشق وبيروت وعمان ومسقط والرياض والقاهرة والخرطوم وتونس والجزائر والدار البيضاء؟!
لم تنتهِ القصة هنا، فثمة قصص كثيرة امتدت طوال فترة الزيارة، لكن أشدهها تأثيراً في نفسي ما حدث على طاولة محافظ ( هان سو) تلك المدينة القريبة من ( شنغهاي) في جنوب البلاد والتي تعد جنة الله على الأرض، وقد سبق لي زيارتها، فقد دعانا محافظها لعشاء عمل للحديث عن المناسبة التاريخية والتي ستحمل الرئيس ( شي جين بينغ) إلى كل المناصب العليا في الحزب والجيش والحكومة، ولم يكن نظام المطعم يسمح بوجود طاولة واحدة تستوعب جميع الحضور، فجرى تقسيمنا على ثلاث طاولات، لم يكن نصيبي منها الجلوس على طاولة المحافظ، الأمر الذي أغاظني دون أن أمتلك القدرة على مخالفة ترتيبات مراسم وزارة الخارجية الدقيقة، وكان الصحفي القادم من الجزائر في الطاولة الرئيسية وكأنه أحس بي وعرف ما يجول بخاطري، ونحن قد قضينا الأيام السابقة نتحدث عن أبعاد العدوان على سورية، والتجربة المرة التي خاضتها الجزائر مع الإرهاب وأكذوبة الربيع العربي، فما كان منه إلا أن حمل بطاقته الاسمية المكتوبة باللغتين العربية والصينية ووضعها مكان بطاقتي على طاولتي ، وحمل بيده بطاقتي ليضعها على الطاولة الرئيسية وهو يقول بأعلى صوته، إنني يجب أن أكون في المكان الذي تستحق سورية دوماً ، وإنني لدي قضية كبيرة ، ينبغي عرضها أمام الحاضرين بكثير من التفصيل والوضوح، وذلك ما كان ، إذ سيطرت على مسار الحوار والحديث ، ليتقدم أكثر من صحفي بعد وقت قصير يدعمون موقفي وهم يربتون على كتفي مؤيدين ، وما نعين في الوقت ذاته أي صوت مخالف ، ممن التزموا الصمت أمام الحجج والبراهين القوية والشهادات الصادقة ، فكانت واحدة من التجارب الدبلوماسية في مواجهة العدوان بطريقة ناعمة وفاعلة.
وعندما افترقنا في مطار دبي حملنا مواقف صادقة واستذكرنا آليات نضال موحدة في أماكن متباعدة ، ليبقى الحلم العربي محمولاً في تجارب صادقة تعرف طريق التضحية والإيثار، وتتخلى عن الحسد والكراهية.