الثورة- بغداد- أحمد حمادة:
من أرض بابل، من حدائقها المعلقة، التي حلمنا برؤيتها واقعاً معلّقاً، لا في الرسوم القادمة من وحي الصور المفترضة، سارت بنا الأحلام.
فما إن هبطت طائرتنا على مدرج مطار بغداد الدولي، حتى بدأت ساعة استكشافنا بالدوران، استراحة قصيرة، ثم انتقلنا إلى فندق (بابل) الأشهر في عاصمة العراق، ثم طاف بنا مضيفونا على مدى أيام في العديد من الجولات السياحية الجماعية، ثم المغامرات الفردية التي رافقني فيها أكثر شباب العراق علماً وثقافة، وهم يرددون عبارات الترحيب والتكريم والتشريف والضيافة والسلام.
انطلقت برفقتهم لنتعرف على عاصمتنا جميعاً، لمّا كنا أمة واحدة، بدولة واحدة، من أقصى المحيط إلى ما بعد الخليج بآلاف الأميال، أي إلى حدود الصين البعيدة، فالوقت من ذهب، ولا بدَّ من استثمار كل دقيقة وثانية من ثوانيه.
من الرُّصافة، من شوارعها الأعظمية وزيونة وفلسطين وأبي نوّاس والسعدون والكرادة وبغداد الجديدة، سارت بنا أقدامنا نحو أهل النخوة والكرم والإيثار، وأحمد المصطفى أبو مجتبى، يحرص على الغوص بشرح كل مفردة وتمثال وساحة لها تاريخ، وكأنه يحرص على اختصار التاريخ كله، بما تيسر لنا من ساعات.
من نهر دجلة القادم من جبل الجزيرة وأرمينية، من آثار القصور التي بناها المنصور، من أسوارها، من أبوابها خُراسان والبصرة والكوفة والياسرية والشَّام، إلى قبابها الخضراء، تكحلت عيوننا برسوم العمارة العربية وريشة نحاتي أعمدتها وصور الإبداع والجمال، وسدير القيسي، يبدع بنقلك إلى أجوائها الساحرة في غابر الأيام.
من حيث سكن نحاتو الحرف العربي، وأبدعوا في وصفها وقالوا: “بغداد أشهر من أن توصف، وأحسن من أن تُنعَت، وأعلى من أن تُمدَح”، وقفنا نستعيد صور حلهم وترحالهم و(صالوناتهم) الثقافية وأندية أدبهم الرفيع، وكل ما احتوته مكتباتهم من شعر وعلم وترجمات، يدخلك أبو عبدالله محمود الصالح الظريفي في عالم الأجداد العظام.
من مركز الإشعاع العلمي والفكري العظيم يوم كان العالم يغرق بالظلام، مشت الأٌرجل، ورنت القلوب، وتوجهت الأبصار، نحو قصور وقلاع ومسارح كانت قائمة هنا يوماً.. فهنا كان قصر أبي جعفر المسمى باب الذَّهب، وهنا تسمّرنا أمام الدفاتر والمجلدات والخرائط والكتب القديمة، ولكن بجغرافيتها الحية وروحها الحاضرة، فاستعدنا كتب “مسالك الممالك” و“صور الأقاليم” و“أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”.
هنا شطح بنا خيالنا نحو كتابها ومبدعيها، وهم يرسمون تضاريس الأقاليم والمدن والأمصار وسماتها، ويفردون لبغداد حيزاً كبيراً من صفحاتهم، وشرعنا نستعيد ذكرى خرائطهم التي تغطي جغرافيا الأرض، يوم لم يكن في أمم الأرض وحضاراتها من يرسم الخرائط ويحدد السواحل والشواطئ والبراري وتفاصيل البقاع.
وفي (نارنج) تجتمع ثقافتا الرافدين والشام لنتذوق أشهى الطعام والفاكهة والحلويات المشتركة، وتزين مساءاته الحوارات العميقة مع الضيوف، والتي كان نجمها ضيف طاولتنا الفنان العربي المصري القدير طارق الدسوقي، الراقي والمثقف، وتأخذنا مفرداته المنحوتة بدقة جريان النيل إلى فضاءات العروبة واللغة والتاريخ والمستقبل والتطور الحضاري والتقاني الهائل في العالم.
هنا استعدت برفقة الدكتور عمر الصالح العكيدي صور التاريخ الموغل بالقدم، ومشاهد الكرخ و“ماء النهروان”، وحلمنا برؤية الأعمدة الرخامية المزركشة التي شيدها “عضدُ الدّولة” التي هدمتها الحروب، وجارت عليها السنون، ودثرتها الأيام، وبحثنا كثيراً عن (كليلة ودمنة) علنا نجدهما مع ابن المقفع في داره القديمة.
في تلك المساحات الغنية، استعدت برفقة الأستاذ محمد الموسوي، قارئ التاريخ بعينه الثاقبة، مشهد حرق المغول مكتبتها “بيت الحكمة”، وكيف قذف جندهم كتبها النفيسة ومقتنياتها بالملايين في نهر دجلة، حتى صار ماؤه أزرقَ، واستعدت مع ذاك المشهد المؤلم كيف تنهض بغداد والعواصم الحرة من تحت رماد الغزاة، لتعلن أنها حية ومنتصرة.
وفي مسك الختام شارع المتنبي استعدت برفقة هؤلاء الجميع مع الأستاذ المهندس صباح عبد الصمد، كيف انتهجت بغداد أيام الدولة العباسية سياسة الانفتاح تجاه أمم الأرض، من فارس إلى الهند مروراً باليونان، وترجمت عنها، وراسلتها، وافتتحت السفارات لديها، وبعثت إليها واستقبلت منها القناصل والسفراء والأدباء والعلماء.
من شارع الأميرات إلى المنصور فالعامرية والجنادرية وصولاً إلى المتنبي، تسمرت أرجلنا أمام فخامة الأمكنة وأسمائها، فأي شارع للمتنبي؟ إنه فريد بتصميمه المعماري، غني بدكاكينه الثقافية والأدبية، ورساميه، والذين يرتدون الكوفية، وكأنهم شاعرنا المبدع، لينتهي المشوار بتمثال للمتنبي، يطل على دجلة، وقد نقش تحته بيته الرائع.. أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي.. وأسمعت كلماتي من به صمم.
وعلى يمين ويسار شارع المتنبي الطويل، تبهرك العروض والمكتبات والرسوم والتحف والعازفون والمركز الثقافي البغدادي، وتدخل في نهايته سوق السراي، وتستمتع بأجواء مقهى الشابندر وزخارفه وتراثه، والصور النادرة المعلقة على جدرانه لملوك وأمراء ورؤساء العراق عبر التاريخ.. ويأبى العقيد أحمد والمكلفون بأمن شارع المتنبي والسهر على راحة زواره أن نغادر من دون الاحتفال بنا وتقديم شراب (الكزانجبيل) وتوديعنا بعبارات التكريم كشهامتهم المعروفة.
تسمرت أرجلنا لتمنح عقولنا فرصة تخيل أقسام بغداد، يوم بنيت أول مرة، أليست هنا مدينة السَّلام، وهناك بادُوريا، والرُّصافة، وعلى مقربة منهما دار الحكم العربي الكبير؟ أليست هنا مدارسها وأشهرها النظامية والمستنصرية التي كانت تشع النور إلى البشرية جمعاء؟
هنا وقفنا وكأننا نحاور ياقوت الحموي، ونسأله: كيف ألّفت معجميّ “البلدان” و“الأدباء”؟، هنا عينُ العراق، كما وصفوها، ومجمع المحاسِن والطيبات كما تغزلوا بها، ومعدن الظَّرائف واللطائف كما تغنوا بها، وحاضرةُ الدنيا، كما توقفوا عند دورها الحضاري.
هنا تخيلنا أننا في ديوان الجاحظ و(صالونه) الثقافي، نقتبس من حرفه المبدع، ونغترف من بحره العميق، وتخيلنا أيضاً أننا على درب ابن بطوطة، الرحالة والمؤرخ المغاربي، الذي وصف بغداد بأنها ذات القدر الشَّريف، والفضل المُنيف، ومقر علماء الأرض، وكأننا بادرناه بالسؤال: كيف مررت بالعراق، وما وراء العراق، وكيف وصفت العالم كله بأدق المصطلحات والأوصاف؟ هنا بغداد..!.