أشارت الحلقة السابقة إلى النص الجريء لممدوح عدوان عن “الزير سالم”، والذي سعى من خلاله إلى إضاءة تفاصيل مسكوت عنها في سيرة الزير سالم لإيصال رسالة تنتقد الظلم والاستبداد.
في “الزير سالم” حطم (ممدوح عدوان) العرف التقليدي في تناول السيرة الشعبية بما منحه حرية إيصال مقولاته وأفكاره عبر الحدث الدرامي، لا عن طريق الحوارات السردية التي كثيراً ما تناقضت مع شخصيات أصحابها، ولم يقلقه ما يمكن أن تثيره رؤيته للحكاية التاريخية من ردود فعل حادة، وهي تصطدم مع تفاصيل تم تناقلها كمسلمات غير قابلة للنقاش عبر مئات السنين، بل إنه فتح حواراً علنياً مع منتقديه حين تحدث في الصحافة عن عمله في تناول الحكاية، وعمله على النص، والمراجع التي عاد إليها من أجل اكتشاف تفصيل ما، أو البحث في إمكانية إغناء حدث بما يخدم البنية الدرامية للعمل كما فعل مع شخصية (جحدر) التي أداها ببراعة الممثل الشاب (مصطفى الخاني)، والتي كان لها في السيرة الأصلية حضور يكاد لا يذكر، وحتى حينما تخلى – في المقابل – عن إيراد وقائع من سيرة الزير لأنها تنتمي في الذاكرة الجمعية إلى حدث آخر في زمان آخر ولا يخدم إيرادها الحدث الدرامي كما في الأبيات الشهيرة التي تبتدئ بـ”نحن بنات طارق”.
نحن بنات طارق – نمشي على النمارق – المسك في المفارق – والدر في المخانق – إن تقبلوا نعانق – أو تدبروا نفارق – فراق غير وامق – عرس المولي طالق – والعار منه لاحق..
بهذه الأبيات الشهيرة بدأ الراحل ممدوح عدوان كتابه المهم (الزير سالم – البطل بين السيرة والتاريخ والبناء الدرامي) الصادر عن دار (قدمس) بدمشق عام 2002، مختتماً نقاشاً لم يستأنفه أحد حول مسلسله، البالغ الأهمية، مفنداً، بكمٍ وفيرٍ من المعلومات، ورؤية نافذة مبنية عليها، الانتقادات التي وجهت إلى مسلسله، والمستندة في معظمها إلى الخلط بين الواقعة التاريخية، والسيرة الشعبية المتداولة على ألسن (حكواتية المقاهي)، أو.. الجهل بكليهما.
يقول الكاتب: إن تلك الأبيات يعرف كثيرون أنها غنيت من قبل النساء القرشيات قبيل موقعة (أٌحد)، لكن ماذا كان سيحصل لو أنه أوردها في مسلسله الذي تقع أحداثه قبل ذلك بسنوات طويلة؟.. ألن يتهم على الأقل بجهل التاريخ أو بقسره على هواه.. فيما التاريخ الموثق يقول: إن هذه الأرجوزة قد رددتها النساء البكريات يوم (تحلاق اللمم).. قبل الإسلام بوقت طويل؟..
من هذه الواقعة التي تخطاها المسلسل يلج (ممدوح عدوان) إلى النقطة الأكثر حساسية: الاعتماد على ثقافة الاستماع والمقاهي والمحفوظات المدرسية الأولى، والتي تؤدي بالنتيجة إلى ضعف المعرفة الحقيقية، أو ضياعها كلياً، وهذا ما حصل تماماً في الانتقادات التي سبقت ضد مسلسل (الزير سالم)، والتي فندها الكاتب في كتابه، ولم يستطع أحد من أصحابها الدفاع عما كتبه أو أشاعه.
للوهلة الأولى يبدو كتاب (ممدوح عدوان) رداً على الانتقادات التي طاولت مسلسله، لكن الطبيعة الشخصية للكاتب وغناه المعرفي والإبداعي وأهميته كمثقف ومبدع، ركنت روحه المشاكسة جانباً لتكشف أهمية الباحث فيه، فكان كتابه رغم صغر حجمه النسبي (111 صفحة من القطع الصغير) بحثاً عميقاً في طريقة تناول السيرة الشعبية توثيقاً ودراما، يسلط الضوء على الكثير من الأخطاء الشائعة المسلم بها كحقائق غير قابلة للجدل، برغم أن التاريخ والمنطق ينفيها كلياً، حيث يسود بعضها بفعل الجهل، وبعضها الآخر بسبب أهواء المتلقين:(المستمعين في الغالب)، كما في استجابة (الحكواتي) لجمهور المقهى الذي لا يسمح له بالتوقف عن سرد حكايته و(عنترة) في الأسر، وهي واقعة أشار لها الكتاب، وعرضها مسلسلان تلفزيونيان آخر “أمانة في أعناقكم”، و”ملح وسكر”، أو في إسقاط حالة قائمة في زمن ما على أحداث في زمن آخر. (يتبع)