حرفةُ المبدعين وفلسفةُ الحالمين

الملحق الثقافي-رنا بدري سلوم:

الفنّ حاسّة سابعة وعينٌ ثالثة تُنبئ من يتتبع حدّسه بابتكار ما يحيط به من هواجسٍ وتأملاتٍ نقديّة يعيد صياغتها، وتشكيلها ومزجها، الفنّ صوت داخلي لا يصمت ولا يكفّ عن النداء لتتحرر، يتملكك لتصيغ منه روحاً جديدة إما بنغمة موسيقية أو قصيدة، لوحة فسيفسائية أو منحوتة أثرية، الفن هو أن تصوغ حِرفة تشتغل بفوضى حواسك لتثبت فلسفة وجودك .
لطالما كان «الفنّ» في الفكر الفلسفي هو هذه الأنشطة جمعاء، الإنسانية والصناعية والعلوم والفنون الجميلة، تساوى عند محرابهِ النحت والشعر والغناء والموسيقا في القيمة مع النجارة، والحدادة، والجراحة، وبذلك كان الشعر صنعة كغيرها من الصناعات، إلّا أن ظهر في اليونان بعض الفلاسفة الذين فرّقوا بين الفنون الصناعية والفنون الجميلة مثل «أفلاطون» فقد كان أول فيلسوف يؤسس لموضوعات الفن والجمال بشكل نظريّ، فقد نظر إلى الفن الحقيقي على أنه العمل البعيد عن الحياة اليومية المحسوسة والتي تبتعد بدورها عن تأثير الحواس والإدراك الحسي، ولذلك رأى أن الموسيقا تحقق الخير والجمال، بسبب ابتعادها عن الواقع المحسوس، وتأثيرها على النفس الإنسانية بإكسابها الاتزان.
أما العرب فقد اعتبروا أن الفن صناعة، وتعريف الصناعة في «المعجم الوسيط» هي: «كلّ فن أو حرفة مارسها الإنسان حتى برع فيها». يمكننا القول :إن الفنّ والصناعة وجهان لعملة واحدة أساسها الإتقان ومهارة الصنع. وبالاستناد إلى المراجع التي تحدثت عن نظرة الفلاسفة للفن وتعريفهم له، فكما جاء في الموسيقا أنها نوع من أنواع الصناعة، فقد عرّف « ابن خلدون» الموسيقا أنها صناعة الألحان وتلحين الأشعار الموزونة لتقطيع الأصوات على نسب منتظمة ومعروفة. كما استخدم العرب مصطلح الفنون للإشارة إلى أنواع العلوم المختلفة وفقاً للمصدر.. الكتاب الذي ألفه «ابن عقيل عبد الله بن عبد الرحمن» والذي تكوّن من أربعمئة مجلد، وأسماه «الفنون» وذكر به العديد من العلوم المنتشرة في عصره، وهناك العديد من الأمثلة التي تبين مدى ارتباط مصطلح العلوم ومصطلح الفنون بوصفهما شيئاً واحداً عند العرب.
الفنّ وإرادة القوة عند «نيتشه»
الدافع الكبير للحياة هو «الفن»، والجزء الكبير منه «الموسيقا» التي تعبر عن إرادة القوة «أسطورة الإله ديونيزوس» والإحساس الباطن والإبداع الفني الكامل، هكذا يراها الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» الذي لابد من الحديث عن رؤيته للفن فقد اعتبرت فلسفته من الفلسفات الفريدة من نوعها، إذ حاول نقد كلّ سائد في عصره وقبله، فمطرقة نيتشه النقدية لم تترك شيء إلا وفككته ودمرته، فهو نقد الدين والأخلاق وإلخ، وفلسفته لا يمكن فصلها عن حياته الشخصية، فهي انعكاساً لها، فقد دعم فكرة العودة الأبدية التي تقتضي الاستقلالية عن الأخلاق بمفهومها السائد في عصره، وكذلك العثور على وسائل جديدة ضد عمل الألم « بوصفه أداة باعثة للفرح» المتعة التي يمنحها اللايقين، والمؤقت، رغم تأثره بمقطوعة فاغنر الموسيقية «ترستان وإزولد»، ظل مغرم بها طيلة حياته، وكان له شغف عميق بالتراث الأدبي الإغريقي، وبالممثل «هوميروس» والتراجيديين العظام من القرن الخامس قبل الميلاد، كما أحبّ الفلاسفة الإغريقية خصوصاً فلسفة السابقين عن سقراط، ويمكن اعتبار ما سبق من الدوافع التي جعلته، يؤلف كتابه الشهير «مولد التراجيديا»، موظفاً تأويل رموز الأساطير اليونانية في محاولته لتقريب مفهوم الفنّ للقراء، أو بتعبير آخر فالرمزية تخترق فلسفته في كلّ تفصيلها، في كلا كتابيه «مولد التراجيديا» أو «إكليل الشوك»، وبالعودة إلى كتابه مولد التراجيديا يعتبر « أن الموسيقا والأسطورة التراجيدية تعبيران متساويا القدر عن الطاقة الديونيسية لأي شعب، وهما لا ينفصلان عن بعضهما»، وإن روح التراجيديا «المأساة» كما يعبر عنها نيتشه في كتابه «ميلاد تراجيديا»، يمثلها الإله ديونيزوس، وهو إله النشوة والإسراف ورمز الغريزة وقوى الطبيعة وانفلاتاتها من إدراكها وهذا ما يغذي ويغني الفن، «فديونيزوس» هو التعبير الحقيقي عن عودة الإنسان إلى أصله الطبيعي- الحيواني الذي يجعل الإنسان يعيش في تناغم كوني ويحرر إرادته، عكس «الإله أبولوني» الذي يعبر عن الحلم والحكمة والنبوءة، يقيد شهوات وغرائز الإنسان ضمن أطر يخلقها السائد، لهذا فنيتشه حاول العودة إلى أسطورة ديونيزوس للعمل على تحرير الشعوب من السلطة الذاتية، فقدم نقداً للحداثة عبر التراجيديا الإغريقية، فهو أعاد النظر في الذاتية التي فرضت بشكل استبدادي، وحاول تخليصها من عزلتها، لكي تصبح منفتحة على إمكانية التحرر، فنيتشه يعتبر الفن» إسراف وانتشاء» لا محدود، لذلك ديونيزوسي الذي يعبر عن إرادة القوة اللاعقلانية، هو وجه من عملة الفن والمنبع الأصيل، رغم أنه يعتبر الفن يتغذى من ابوليون أيضاً «فن التصوير والرسم» اعتدالاً وانسجاماً ومن ديونيزوس « فن الموسيقا والشعر» إسرافاً وزخماً.
أخيراً: إن الفنّ تأمل وفلسفة التناقضات وقضية وجود على مدى العصور والحضارات ومعبر مهم في تشكيل العواطف والاحتياجات والتساؤلات، ولم يكن الفنّ بكلّ أشكاله الذي يصعب حصره في هذا المقال إلا إبداعاً حقيقياً ومرآة للزمن ولسان حاله، مع الاعتراف أنّ لكلّ جيل فنونهُ وتصوراته وأدواته الحضارية التي تعرّف به.
العدد 1115 – 11- 10-2022

آخر الأخبار
سوريا تشارك في "القمة العالمية للصناعة" بالرياض  حفرة غامضة في درعا تشعل شائعات الذهب.. مديرية الآثار تحسم الجدل وتوضّح الحقيقة داء السكر .. في محاضرة توعوية  استراتيجية المركزي 2026–2030.. بناء قطاع مالي أكثر توازناً وفاعلية سوريا ولبنان.. من الوصاية والهيمنة إلى التنسيق والندية انتشار أمني واجتماع طارئ.. إجراءات في حمص لاحتواء التوترات بعد جريمة زيدل سوريا الجديدة في مرآة الهواجس الأمنية الإسرائيلية من أماكن مغلقة إلى مؤسسات إصلاحية.. معاهد الأحداث تعود إلى الخدمة برؤية جديدة الطاقة الشمسية خارج الرقابة.. الجودة غير مضمونة والأسعار متفاوتة خريطة الترميم المدرسي في سوريا.. 908 مدارس جاهزة وألف أخرى قيد الإنجاز دمشق تستضيف اجتماع لجنة النقل في "الإسكوا" لأول مرة منذ أكثر من 15 عاماً سوق السيولة.. خطوة تدعم الاستقرار النقدي وزارة التربية تحدد مواعيد التسجيل لامتحانات الشهادات العامة لدورة 2026 عودة اللاجئين.. استراتيجية حكومية تعيد بناء الثقة مع الدولة سوريا والتعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية... مسار لا رجعة عنه إعادة تفعيل البعثة السورية لدى منظمة حظر الأسلحة..السفير كتوب لـ"الثورة": دمشق تستعيد زمام المبادرة ... رئيس الأركان الفرنسي يؤكد ضرورة الاستعداد للحرب لبنان وسوريا يتجهان نحو تعاون قضائي مشترك تفعيل البعثة الدائمة.. كيف تطوي سوريا صفحة "الرعب" ومحاسبة مجرمي "الكيميائي"؟ الأردن يعزز التنسيق مع سوريا لمواجهة تحديات إقليمية