الثورة_أديب مخزوم:
خسارة جديدة منيت بها حركتنا الفنية التشكيليّة بغياب الفنان سهيل معتوق (الأستاذ الجامعي في الفنون الجميلة)، والذي رحل يوم الأربعاء 2-11-2022 هو الذي امتلك، ومنذ سنوات طويلة صياغة فنية وتقنية خاصة، في معالجة البنى المعمارية بمسطحات لونية تجريدية تتداخل مع الزخارف والعناصر النباتية وغيرها، ولقد حافظ على خصوصية أسلوبه، متنقلاً بين الرسم بألوان محددة، والتركيز في أحيان أخرى على تدرجات الأبيض والأسود، وبذلك كان يعمل على كسر الشكل وأفقيته الواقعية، ويصل إلى التأليف الفني الحديث والمعاصر.
ففي لوحاته عن دمشق القديمة ومعلولا والعمارة الشرقية بشكل عام، والتي كان يقدمها في المعارض الرسمية الدورية، شاهدنا إصراره على المجاهرة بخصوصية تجربته، في كل المعارض التي شارك فيها، والإيقاع التشكيلي البارز في لوحاته عن العمارة القديمة يكمن في قدرته على الجمع بين الإشارات الهندسية، في إضفاء المساحات المربعة والمستطيلة وأقواس القناطر والقباب والزخارف والخطوط الأفقية والشاقولية، وبين العناصر النباتية وأحواض الزهور وحبال وملاقط الغسيل، والتي تحقق نوعاً من الحوارية البصرية في فضاء الشكل المعماري الخيالي.
كل ذلك في حالات الوصول إلى أبعاد تشكيلية مختلفة ومتفاوتة، في انتمائها إلى ما ساد وما هو سائد من مدارس فنية في التشكيل والرسم الحديث، وهكذا بدت لوحات العمارة القديمة أميل إلى التجريدية المتداخلة مع بعض العناصر الواقعية (كأحواض الزهور والورود)، والتي تتميز بشاعريتها وبشفافيتها البعيدة عن التكثيف اللوني وعن العفوية، والتي تحقق عنصر الصفاء اللوني في صياغة المساحات المتجاورة والمتداخلة والمستمدة من إيقاعات تشكيلية حديثة.
هكذا أمتلك صياغة اسلوبية خاصة في تشكيل البناء المعماري، المقتطف من تداعيات الذاكرة ، بإضفاء المزيد من المساحات اللونية الشفافة الناتجة عن معالجات لونية محددة خاصة بكل لوحة على حدة، وهذا عمل على إظهار الإيقاعات الهندسية الأفقية والشاقولية، بحيث انحازت الرؤية أكثر فأكثر نحو إشراقة الداخل، أو نحو النسيج البصري المسطح للمساحة، على الرغم من أن اللوحة تحقق في مظهرها العام الكثير من الإيهامات التجريدية والتعبيرية والخيالية.
إلا أن هذا الشعور، بإضفاء المساحات اللونية الهندسية، التي كان يعيد من خلالها صياغة أشكاله المعمارية، سرعان ما كان يتغير عندما ينتقل إلى معالجة، أقسام من لوحاته بصياغة واقعية (ملاقط الغسيل وأحواض الزهور وغيرها)، وهكذا كان يدمج في اللوحة الواحدة بين معطيات الواقع، وبين المساحات التجريدية المعبرة عن روح العمارة الدمشقية القديمة.
ولوحات العمارة القديمة لم تكن في فنّ سهيل معتوق سوى استعادة بصرية تؤكد معطيات الذاكرة الطفولية، وتتجاوز المؤشرات الواقعية نحو العمق الآخر للمشهد، الذي يبرز باللون الشاعري والشفاف والضوء والمساحات في خطوات التعبير عن العلاقة الحميمية والمزمنة التي كانت قائمة بين الفنان الراحل وبين بيئته الحية المترسخة في وجدانه منذ أيام الطفولة.
وإذا كان قد اعتمد على تشكيل مساحة هندسية، فإنه استطاع بذوقه وبحساسيته البصرية والروحية العالية، تحويل أشكال المربعات والمستطيلات والأقواس والزوايا إلى حركة ذاتية، وإن أقتربت من الرزانة والحسّ الرياضي والعقلاني.
وهذا يعني أنه كان يعتمد على الحركة الإيقاعية للون الشاعري، ولقد ظل على ارتباط بالصورة والواقع، من خلال بحثه الدائم عن ملامحه العامة أو أشاراته المبسطة والمختزلة.
ولوحات سهيل معتوق ذهبت إلى تنوع في الصياغات، فمن تبسيطية الشكل واللون، واختصاره أحياناً إلى التلوين الأحادي، والعناصر المختزلة، إلى الأعمال الأخرى التي تعتمد على تكثيف العناصر، والبحث عن إيقاعاتها الموسيقية.
ولعلّ هذه الحرية التي كان ينطلق منها في صياغة عمله الفني، هي التي فسرت إحساسه وخصوصية عالمه الفني، فإما أن يكون هادئاً أثناء إنجاز اللوحة فتأتي حسب إحساسه الداخلي ملطفة نوعاً ما، وأما أن يكون عكس ذلك في أخرى، ولا يعني ذلك أنه وكما أشرنا لم يكن يدرس المساحات اللونية والأشكال والمادة التي يعمل عليها للوصول إلى درجة من التوازن التكويني والتشكيل اللوني اللذين بدا فيهما أكثر تحكماً وثقةً في بناء اللوحة.
فقد جذبته وعلى مدى سنوات عمره مشاهد العمارة القديمة، بشكلها الحالم لا الواقعي، حيث كان يقدم في النهاية لوحات متزنة وقادرة على تخطي الرؤية التقليدية، وكان يريد من خلالها زيادة تحسسه لإيقاعات جمالية حديثة، لها علاقة مباشرة بثقافة وفنون القرنين الماضي والحالي، قرن التحولات والانقلابات الفنية الكبرى التي غيّرت مجرى الفن الحديث والمعاصر.