لا تقف أهداف الحروب التي تتعرض لها دول وشعوب كثيرة إلى إحداث دمار وقتل وتخريب في البنى العسكرية والاقتصادية أو تحقيق نجاحات ميدانية فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى الجانب المتعلق بالبناء النفسي والأخلاقي للشعوب المستهدفة، وإذا كان من الممكن إعادة إعمار ما خلفته الحروب والصراعات من دمار مادي وتعويض الخسائر العسكرية سواء أكانت معدات أم مقاتلين أمر ممكن ومتيسر وهو ما قامت به دول كثيرة تعرضت أو خاضت حروباً ضارية كما هو حال الدول الأوروبية وروسيا واليابان وغيرها في الحرب العالمية الثانية، حيث استطاعت خلال أقل من عشر سنوات إعادة بناء ما خلفته الحرب الكونية بل وشهدت نهضة عمرانية واقتصادية هائلة جعلتها اليوم في مقدمة اقتصادات دول العالم.
إن من أخطر ما تتركه الحروب من آثار ودمار هو ما تعلق بالبناء النفسي والأخلاقي ومسألة الانتماء، فالتدمير النفسي للشعب والمقصود به فقدان الثقة والأمل بالمستقبل أو فقدان الأمل بالخروج من الظروف الصعبة والقاسية التي تتركها الحروب والنزاعات والصراعات الداخلية أو غيرها هو غاية في الخطورة لا بل إن حدوثه وتحوله إلى شعور عام هو الهزيمة بعينها والأخطر من التدمير النفسي هو تدمير المنظومة الأخلاقية للناس وسلم القيم لديهم وانعدام الشعور بالمسؤولية والحس الوطني وتغليب الخلاص الفردي على الخلاص الجماعي وغياب الضمير والمشاعر الإنسانية والرادع الأخلاقي والديني والقانوني كل هذه المنظومة تشكل السياج الذي يحمي الوطن ويحافظ على المجتمع ويرسخ روح الجماعة واستمراره، وعكس ذلك يعني الانهيار والضياع والدخول في نفق مظلم.
وفي الواقع لا شك أن للحروب والصراعات كالذي شهدته سورية خلال حرب استمرت لأكثر من عشر سنوات وما زالت مستمرة في بعدها الاقتصادي القاسي لابد من أن تؤثر في حياة الناس وسلم أولوياتهم سواءعلى صعيد المنظومات الأخلاقية أم الاجتماعية وتعيد ترتيبها بما يضمن بقاء النوع والحفاظ على الأسرة ومعيشتها وأمنها النفسي والحياتي، ولكن ذلك يجب ألا يصل إلى مستوى قلب الهرم الأخلاقي والقيمي رأساً على عقب عند البعض ولاسيما أولئك الذين يتحكمون في مفاصل الحياة الاقتصادية والخدمية ويوميات الناس فلا بد من حدود دنيا من منظومات الأخلاق والشعور بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية والإنسانية في متلازمة العام والخاص والذات والموضوع والفرد والجماعة في هذا الإطار، فالمصالح العليا في المجمع هي فوق كل اعتبار ويضمنها الدستور والقانون ويملك قوة الردع للحفاظ عليها وتحصينها وحمايتها.
إن غياب الضمير الفردي يستدعي بالضرورة حضور الضمير الجمعي، وهو في هذه القانون الوضعي بما يمتلكه من أدوات وقوة نفاذ وردع لأنه ناطق باسم الشعب ولسان حاله، فتجاوزه يشكل تجاوزاً للإرادة الشعبية، وما تمثله من مصلحة وطنية، ولعل الأخطر من ذلك عندما يكون أولئك الذين يتجاوزن القوانين والأنظمة ويعتدون على مصالح المجتمع ويثرون على حسابه من هم في موقع المسؤولية أو المتنفذين في مفاصل الدولة بحكم علاقاتهم غير الموضوعية مع أصحاب القرار وصناعه، فهذا يعني بالمحصلة غياب هيبة الدولة وقوانينها والدعوة إلى الفوضى حال غياب محاسبة أولئك الفاسدين والمفسدين ولاسيما عندما تكون أسماؤهم وصفاتهم على كل شفة ولسان وهم يسرحون ويمرحون أمام أعين الجميع.
إن من مسؤولية السلطة المعنية وأجهزتها الرقابية والقضائية تعقب هؤلاء ومحاسبتهم وتطبيق العقوبات بحقهم لأن في ذلك إنفاذاً للقوانين واحتراماً لدور المؤسسات وما يعلق عليها من آمال، حيث يلاحظ من يتابع وسائل التواصل الاجتماعي حالة الارتياح عند الرأي العام كلما جرت محاسبة أو تعقب أو مساءلة كل من يثبت ارتكاباته وتجاوزاته للقوانين والأنظمة وكل ما يخل بسلامة وأمن المجتمع والمصالح العليا للوطن.
إن تفعيل قوانين المحاسبة وتطوير النظام التشريعي بما تستدعيه التطورات الحاصلة بعد الأزمة التي عصفت بالبلاد وتشديد العقوبات المتعلقة بالوضع الاقتصادي والمعيشي والأمن المجتمعي مسألة تستدعيها الضرورات والتحديات الراهنة ولدينا من المؤسسات التشريعية والدستورية ما يستجيب لذلك ويتفاعل معه، من هنا تأتي أهمية إيلاء ذلك الجانب ما يستحقه من أهمية حفاظاً على النظام العام والمصلحة الوطنية العليا.