الثورة – هفاف ميهوب:
يرى الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” بأن رواية “دون كيشوت” هي رحلة لفكّ رموز العالم، بل “طواف دقيق يدلّ على أن الصور الموجودة على سطح الأرض، هي صورٌ تبيّن أن الكتب تقول الحق”.
أيضاً، يرى الكاتب والروائي الكولومبي “غابرييل غارسيا ماركيز”، بأن “علينا أن نقرأ ونعيد يومياً قراءة دون كيشوت”.
حتماً، لم يكن عبثاً أن يقال هذا عن روايةٍ، جذبت اهتمام الكثيرين من أدباء وفلاسفة العالم.. أيضاً، لم يكن عبثاً قيام كاتبها الإسباني “ثرفانتس” بجعل بطله “دون كيشوت” قارئاً شديد الولع بالكتب، ولاسيما كتب الفروسية والشهامة.. الكتب التي كان يصدّق كلّ ما يقرأه فيها، برغم عدم واقعيّتها، والتي شغل حياته بها فأغنته عن احتياجاته، ودفعته للتفكير بالمضي في أنحاء الأرض، للبحث عن قيم الحق والعدالة والحرية، ومحاربة الظلم والأحقاد والشرور اللاإنسانية.
فعل ذلك، دون أن يفارقه الكتاب الذي مثلما لازمه قبل انطلاقته في رحلته، لازمه بعدها، ومُذ حمل رمحه وسيفه، واعتمر خوذته وامتطى حصانه، وصولاً إلى اللحظات التي خاض فيها معارك، لم يكن يحارب فيها إلا الوهم.
نعم، لم يكن عبثاً أن فعل “ثرفانتس” كلّ ذلك لطالما، أراد أن يقول لكلّ أبناء عصره، بأن الكتاب هو العالم الذي يمنح السلام والوعي والعدالة، بل والشجاعة والفروسية المفقودة.
العالم الذي دخل إليه عبر “دون كيشوت”.. فارس خياله الذي كان سبباً في إطلاق شهرته، وفي جعل العالم بأكمله، يعترف بإبداعه وينشغل برائعته.
إنه الخروج من عالمٍ الواقع الذي عانى وتألم فيه، إلى عالم الخيال الذي مكّنه من ابتكار شخصياتٍ عرّفت به وهو الذي لم يكن معروفاً، لولا الكتب التي قدّمها، وتحديداً هذا الكتاب الذي أيقظ الغافي من أحلامه، وأضاء العالم بكلماتٍ مصدرها آلامه..
أحلامه في نشر الشجاعة والإخلاص والحب، مثلما العدالة والقيم والمثالية، والكلمات التي تجاوزت بإبداعها عطب يده، مثلما بيئته الفقيرة والشرور المدمّرة للإنسانية.
هذا ما فعله هذا الكتاب، وحتماً تفعل الكتب أكثر من ذلك.. الكتب وكلماتها التي تستحقّ أن يقال عنها، قول الشاعر الإيطالي “دانتي” في ملحمته الشهيرة “الكوميديا الإلهية”:
“الكلماتُ هي وسيلتي لإنجاز رحلتي، من الغابة المظلمة، إلى السّماء السابعة”

التالي