الثورة- ديب علي حسن:
تموت اللغة حين تظل حبيسة معاني مفرداتها، وإذا لم تحدد شحن مفرداتها بمعان جديدة وتفجر من يباسها ماء الإبداع، فلا معنى لها.والشاعر الحق هو الذي يعطي اللغة نسغها وحيويتها وقدرتها على أن تحلق عالياً بأجنحة الخيال.
ومازال كلام جبران خليل جبران عن دور الشاعر في تجديد اللغة صالحاً لكل زمان ومكان، وكان ذلك حين وجهت إليه مجلة الهلال المصرية سؤالاً حول تجديد اللغة.
فكان أن قال إنه الشاعر الحق.
وإلى هذا يشير أدونيس في زمن الشعر وفي موسيقا الحوت الأزرق. ولكن هل كل الشعراء قادرون على فعل ذلك..؟
بالتأكيد: لا قليلة هي التجارب التي تفعل ذلك ..الشاعرة الدكتورة سلمى جميل حداد صوت شعري تمرس في القدرة على تجاوز منجزه السابق في كل إصدار جديد وفي جعبتها عدد من الروايات والمجموعات الشعرية.
كثافة المعنى
في مجموعتها الشعرية الوثابة التي حملت عنوان: أتجاذب معك أطراف الحريق ..تدهشك القدرة على اتقاد المعنى وكثافته والتحليق بجناحي الفكرة والخيال والحفاظ على الإيقاع الداخلي الذي يعطي النص روحاً وثابة.من العنوان (أتجاذب معك…) تقرأ جمالية اللغة أتجاذب في صيغة المفاعلة أي على وزن أتفاعل أي التشاركية بين طرفين ..أطراف الحريق ..ليس الحريق بل أطرافه ولكن ماذا عن الحريق كله..؟ هل هو في لحظة الاشتعال الأولى أم في نهاياته من الذي أشعله وكيف ..من سوف يطفئ أواره..؟
المجموعة كما قال أحد النقاد تمثل منجزاً إبداعياً يجب أن يتم الاحتفاء طويلاً لأنه فعلاً يشكل علامة في المشهد الشعري العربي ويتجاوز ما يسمى روح الغنائية التي تعتمد إيقاع المفردات دون كثافة المعنى .
حين تقرأ المجموعة تحار من أين تقيس من وهج الإبداع وزهر اللغة وشموخ الخيال.. في النص الذي حمل عنواناً:لا تحتكر الفضاء تقول حداد: قد خرجت منذ زمن إلى فضاءات ذاتي الطليقة ولست أدري إن وصلت ..ما الوصول نتيجة حتمية خروجي من بعضي إلى كلي سأحدق ملياً في صمتي ريثما أرتقي إلى حجم السؤال وسأنمو معه استفهاماً وراء استفهام.. دون يحشرني الجواب داخل جسد من مطلق .
تكثف الشاعرة سؤال الوجود وتعيد صياغته بشكل إبداعي أكثر حضوراً في الذاتية المتشابكة مع الآخر. طرحه شعراء كثيرون هل نذكر الطلاسم لإيليا أبي ماضي .. وسؤاله: من أين أتيت.. أو قول الشاعر العربي: أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر.. حداد تحلق في فضاء المعنى بدءاً من العنوان (لا تحتكر الفضاء) .
أي فضاء تريده وهل من فضاء أوسع وأجمل من فضاء الذات ؟
إنه سؤال الكل للبعض والبعض للكل جدلية الوجود الذي لا ينتهي بجواب ولا يريد جواباً إنه الفضاء الذي هو أنا (أنا لست ما أسميتني ..ولا ما سوف تسميني).
وفي نص حمل عنوان: سأوصدك كما أبواب الشتاء .. تقول: هي غيمة مفردة خارج السياق ..لا تنتمي إلى نص ولا تتعرى أمام إغراء البيان هي أبد من صمت في لغة من حطب وانتظار ..
هي الروح الغريبة تجلس على مقعد تجاورني في قطار وجهته الركود يحمل إلى فوضى الهواء المعطر برائحة الوقود وصدأ السكك الحديدية.
أبواب الشتاء التي أوصدتها الشاعرة لن تفتح إلا على أغوار النفس وفي أعماقها غيم ماطر يجود بخيره .
وسكك الحديد التي تنتظر قطارها ستعود إلى الحياة.إنها غيمة خارج السياق لكنه سياق الإبداع بمفرده.وحين تريد الرحيل يصبح كل شيء رماداً :أيتها الغريبة في قطار لا يعرف وجوه ركابه قد دفعت رسوم الوصول قبل الوصول بجملة مررت على كل المحطات كلحظات عابرات ورحلت كأنك ما رحلت وحضرت كأنك لا توجدين… في بعض الرحيل حقائب صمت وفراق وفي بعضه منفضة من رماد.