وضّبتْ سريعاً.. كل ما بقي في ذاكرتها وذهنها من آثاره..
كلماته.. أشواقه.. غزله.. وعوده.. ومشاعره..
جمعتها إلى بعضها ووضعتها في حقيبة، وقفلتْ عليها.. ثم أرسلتها في البريد المستعجل، لتعود إليه.
يحدث أن يكون للحبّ مُرتجعات.. غير مادية..
وما أكثرها حين تكون من هذا النوع..
من صنف المعنويات..
الأشياء غير الملموسة، لكن المحسوسة بقوة، والتي يصدف أن تحفر عميقاً.. أكثر بكثير من كل الأشياء الأخرى المنظورة والمحسوسة.. (فليس هناك أقوى من الأشياء التي لا نراها).
حزمَتْ ووضّبتْ، كل ما تلفّظ به..
كل تلك الطاقات الهائلة المأمولة من فيض حبّه..
كل ما ألقاه على مسامع انتظارها، وظن أنه أصبح يخصّها مقدار ما يخصّه ويعنيه..
رمته بعيداً في تلك الحقيبة التي أرسلتها إليه، طائرة على أجنحة “الصمت”..
نعم.. الصمت.. بما يعنيه من تغافل.. تناسٍ.. أو ترفّع..
فالصمت من أرقى الأفعال، وقلّة قليلة قادرة على تلقيه وفهمه.
هذه المرة..
منذ البداية.. فكّرتْ بتلك (المُرتجعات).. وكأنها كانت تضع كل ما منحها إياها في زاوية مخصصة لعدم الاستعمال.. للأشياء التي نشكّ بأمرها والتي ليست على مقاس قلوبنا..
كوّمتْ كل شيء كما لو كان من جنس ماديات مُسعّرة.. لها ثمن محدّد.. لم تُمسّ.. ولم تُستعمل.. ولهذا تسهل إعادتها.
للحبّ مُرتجعات.. دفعتها لعدم أخذ الأمر على محمل الجدّ.. وكأنها تستمع لِما قاله محمود درويش “لا تأخذ الناس على محمل الجدّ”، وإلى نصيحة سيلفيا بلاث حين قالت: “الرجال يقولون أحبّك كما يقول السجناء نحن أبرياء فاشربي قهوتك يا جميلة ولا تأخذي أحداً على محمل الجدّ”..
للمفارقة.. “بلاث” نفسها التي نصحت النساء بهذه النصيحة، ماتت منتحرةً، وغالباً كان لخلافاتها مع زوجها الشاعر “تيد هيوز” أثرٌ كبير بسوء حالتها.
بعيداً عن تلك النصائح..
ما يهم الآن.. أن شيئاً ما دفعها إلى عدم الخوض عميقاً في الأمر.. وكأنها كانت تحمي نفسها من الاختباء خلف (اللاجدّية).. كخطوة احترازية تمكّنها من الانسحاب في أي لحظة دون خسائر..
هل حقاً لم يكن لديها ما خسرَتْه..؟
تدرك في أعماقها أنها كانت أكثر المرات صدقاً ونضجاً، ولهذا لم تسرف في تلك “اللاماديات” التي تحيط بالحبّ وتمنحه وهجه الأجمل..
لم ترغب أن تكون مُرتجعاتها لدى الآخر كبيرة.
هل نستدين في الحبّ..؟
هل نُقرض الآخر بسبب ما لديه من فقر.. أم يقرضنا هو ويمنحنا، سدّاً لنقص ما داخلنا..؟
ولهذا نستلذ بما يمنحنا من مشاعر.. أشواق.. أحلام.. وعود.. وإلى آخر قائمة الأشياء غير المنظورة.. والتي ستغدو مع الوقت فعلاً “مُرتجعات” تشبه تلك “العبوات الزجاجية الفارغة” للعصائر والمشروبات الغازية.. والتي يستعيدها البائع..
ماذا لو كانت مُرتجعات الحبّ من النوع غير الزجاجي.. “فوارغ بلاستيكية” لا قيمة لإرجاعها..
إذاً.. هل يجعلنا الحبّ فارغين بعد الامتلاء.. أو بعد وهم الامتلاء..؟
للحبّ ليس فقط مُرتجعات.. إنما له فوارغ من كل الألوان وجميع المقاسات..
نتأمّلها حين ندخل سوبرماركت الحبّ الحديث.. على الرفوف.. أو معلقة بطريقة استعراضية.. منها زجاجات حمراء مخصّصة للأشواق.. بعضها لازوردية وأرجوانية تنبئ بالأحلام.. وأخرى شفافة لا لون لها صالحة لمختلف الأشواق والمشاعر والأحلام..
للحبّ مُرتجعات..
لابأس إن أصبحنا فارغين منها كلّها.. فكلّ فراغٍ يأتي وقتُ امتلائه.