هفاف ميهوب
عندما وجد الأديب الليبي «الصادق النيهوم» بأن أقسى المحن التي نعيشها، هي المحنة الثقافة التي جعلتنا عاجزين عن مواكبة الحضارة، رغم أن الثقافة والحضارة ولدتا في مجتمعاتنا، اضطرّ للتساؤل، وبعد أن وجد أيضاً، بأن الأحقاد التي انصبّت على هذه المجتمعات، أغرقتها بالأفكار التي استلبت وعيها، وزيّفت حقيقتها.
كان العربُ في العالم القديم، هم أصحاب الجيوش النظامية المتطوّرة، وكان موقعهم يضع بين أيديهم المفاتيح الذهبية للتجارة بين القارات، ويضمن لهم معركة سهلة ضدّ الغربيين.
في العالم الجديد الذي نعرفه اليوم، يملك الغربيون أنفسهم، مفاتيح التجارة الدولية بين القارات، وثلاثة أخماس الكرة الأرضية.. فلماذا هذا الانقلاب؟.. وكيف يمشي وطنٌ وناسه ـ إلى الوراء..؟!».
لم يكن هذا السؤال، هو السؤال الوحيد الذي أطلقه «النيهوم» في كتابه «محنة ثقافة مزوّرة»، ذلك أن مقدّمة الكتاب وحدها، امتلأت بالتساؤلاتِ التي اختزلت ما أراد قوله، عن سبب هذا الانقلاب، وفي كلّ المقالات التي حمّلها رؤاه، والحقائق التي أدان ما فيها من تجاوزاتٍ، ومغالطاتٍ واعتداءاتٍ سافرة.
سبب هذا الانقلاب الصاعق، أن شعوب أوروبا الغربية، وبحكم موقعها على المحيط الأطلسي، وفي عصرٍ تميّز بتطوّر الملاحة البحرية على أيدي العرب، قد ارتادت فجأة ثلاث قارات، ومئات الجزر المأهولة بشعوبٍ بسيطة السلاح والتنظيم، فأبادت سكانها، وفتحتها لاستيطان الملايين من مواطنيها، ممن تولّت الشركات تهجيرهم وتمويل مشروعاتهم، ما جعل العرب يخسرون أكبر معركة ضدّ أمّة جديدة، أمّة تعرفهم جيداً، وتعتقد أن لها ثأراً قديماً عندهم.
إنه ما رآه السبب الأكبر لمحنة ثقافتنا العربية.. المحنة التي تفاقمت بعد انقلاب موازين القوى في عالمٍ، قسّمَ إلى ثلاثة عوالم، الغني الواسع، والمتوسط الحال، والفقير المزدحم الذي يضمّ عالمنا العربي الذي قال عن سبب أزمته الثقافية والحضارية.
عالمٌ فقيرٌ مزدحم، تعرّض للاحتلال والإبادة، واستنزف الأوروبيون موارده بشركاتهم الاحتكارية، حتى بات أمر إعادة بنائه، مشروعاً محفوفاً بالشكوك.. وطننا العربي يقع ضمن هذا العالم، في خانةٍ تضمّ أكثر الشعوب عجزاً عن ملاحقة مسيرة الحضارة، فلماذا يحدث هذا؟. وكيف يمشي وطنٌ وناسه ـ إلى الوراء؟.
لقد كان في كلّ سؤالٍ من أسئلة «النيهوم»، إجابة تبيّن السبب في تراجعنا ثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، ولاسيما بعد أن قدّمت الرأسمالية رسالتها التي لم تكن برأي كلّ من شهد مخلّفاتها، إلا كرأيه:»لم تكن رسالة الرأسمالية إنسانية، تهدف إلى توحيد الناس في نظامٍ محرّر من سلطة المؤسّسات، بل كانت رسالة محرّرة من كلّ المبادئ الإنسانية، وموجهة لخدمة رأس المال، على حسابِ كلّ رأسٍ سواه».
بيد أن «النيهوم» لم يكن يسأل، بل كان ينفثُ آلامه وغضبه، من عجزِ عالمنا العربي الذي امتلك الحضارة بأسرها، عن مواكبة ثقافته بشكلٍ حضاري.. الثقافة التي رأى أن انقسامها، هو سبب عجزنا، وخروجنا خارج صفوف المثقفين، ولأنها أيضاً:»وُلِدت في ظلّ الحضارة الغربية، التي لا تعادي تراثنا فقط، بل تشترط أن تلغيه من ذاكرتنا، بحجة أنه سبب الكارثة من أوّلها.