الثورة – أحمد صلال – باريس:
الشاعر السوري خلف علي الخلف (10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1969، الرقة) هو شاعر وكاتب، نشر كتابه الأول عام 2004، ثم أسس خلف موقع جدار في نهاية عام 2005، وهو منصة ثقافية مستقلة تدعم الكتاب المبتدئين والمستقلين، صُنفت على أنها الأولى بين مواقع الثقافة السورية، وحجبت الحكومة السورية الموقع في وقت لاحق.
حيث كان يستدعى للتحقيق من قبل المخابرات السورية في كل مرة ينشر فيها عملاً من أعماله أو مقالاً.
سافر إلى السعودية، ليواصل كتابة مقالات ينتقد فيها النظام السوري ويدعو إلى بديل ديمقراطي، حيث كتب مقالاً بعنوان “إعلان ذاتي عام للسلطات الأمنية السورية”، ومنذ ذلك الحين لم يستطع العودة إلى سوريا حتى عام 2013، عندما لم تعد الرقة تحت حكم الأسد.
صحيفة” الثورة” أجرت الحوار التالي مع الشاعر خلف علي الخلف:
– ببساطة الشعر في كينونته العميقة لغز وسحر وجمال وألم عصي على التفسير في نتاج ديوانك”يوميات الحرب القائمة”؛ هل تحدثنا عن هذا اللغز والسحر والجمال والألم العصي؟.
في يوميات الحرب القائمة، لم أُعوّل على الغموض أو التعمية الشعرية، بل كتبتُ قصيدتي بلغة بسيطة، نقية، دون شوائب أو زوائد، لكنها عميقة الدلالة، محمّلة بألم كبير لا أصرخ به، بل أُخفيه في التفاصيل اليومية الصغيرة.
لم أرد للحرب أن ترفع صوتها في وجه القارئ، بل أن تهمس معه، أن تجلس إلى جانبه، مثل صديقة ثقيلة الظل، أو كظلٍ يرافقني أينما مشيت، علاقتي بها ليست عدائية، بل وجودية، نتشارك الصمت أحياناً أكثر مما نتبادل الكلمات.
في هذا الديوان، لم أكتب عن الحرب كحدث سياسي، بل كوجع إنساني حميم، ينهش الداخل بصمت، رفضت المباشرة، وتجنبت الخطابة، لأنني لا أدوّن بياناً، بل أكتب وجدان من مرّوا بالمحنة، من فقدوا أسماءهم وبيوتهم وأحبّتهم، لكنهم ظلّوا يتنفسون، يتمسكون بالحياة في ظل الخراب.
السحر، إن وُجد، في هذه القصائد، فهو في صدقها لا في زينتها، في قدرتها على الإمساك بلحظة وجع دون استجداء تعاطف. كتبتُ عن الدم والقتل والفقد الذي تعرض له السوريون بصبر، وعن الألم بصوتٍ خافتٍ لكن نافذ.
لم أكتب عن الحرب فحسب، بل عن الذين مرّوا فيها، وعنّي أنا أيضاً، العالق فيها حتى هذه اللحظة بجسدي، وبذاكرتي.
– أقول منذ أن جرت في نهر بردى “في دمشق” دماء شبان المدن والأرياف ولم تتوقف عن الجريان طوال عقد ونيف من الجريمة الجماعية بلا عقاب، وصوتك لم يعد لك وحدك، وقصيدتك راحت تتغير على نحو دراماتيكي؛ كيف تجسد هذا التطور الدراماتيكي؟.
منذ أن سالت الدماء في نهر بردى والفرات وقويق والعاصي، منذ أن صارت الشوارع تنطق بأسماء من غيبوا بالقتل أو بالسجون أو بالرحيل، صارت قصيدتي نشيداً جماعياً أنا جزء منه، كنت قائد جوقة التعبير عن الآلام إن جاز التعبير.
ترافق ذلك مع نضج أدواتي الكتابية بعد انقطاع لسنوات عن كتابة الشعر، فآخر عمل لي قبل يوميات الحرب القائمة كان كتابة شعرية تسخر من آليات كتابة القصيدة الحديثة وأعلنت فيه توقفي عن كتابة الشعر، لكني عدت إلى كتابته على إيقاع الألم، لكن أسلوبي في الكتابة تغير عما كنت أكتبه قبل الثورة، قبل المجازر، قبل أن تتحول الحياة نفسها إلى نصٍّ مفتوح على الدم والفقد والخذلان.
في لحظة ما، أدركت أن القصيدة وإن حافظت على فردانية قائلها ومنطقه وصوته فهي؛ في هذه المجموعة، لم تكن ترفاً، ولا حتى شغفاً شخصياً، بل صار فعل تأريخ للألم، ووسيلة لتوثيق ما لا يمكن للكاميرا وحدها أن تقوله.
حين عدت إلى الشعر، وجدت قصيدتي قد تغيّرت من تلقاء نفسها؛ اللغة أصبحت أكثر تقشفاً، والصورة أقل زينة، لأن الدم لا يحتاج إلى استعارة كي يُفهم.
صارت القصيدة تحاول أن تصل لا أن تُدهش، أن تؤرّخ لا أن تُعلِّق، أن تهمس بما لا يُحتمل قوله بصوت عالٍ.
التطور الدراماتيكي في قصيدتي، كما تصفه، لم يكن قراراً أدبياً واعياً، بل ضرورة وجودية.
الحرب علّمتني أن الشعر يجب أن يؤرخ هذه الآلام كي لا تمحى مع الزمن، ولو بصوت مكسور.
لهذا، لم تكن قصيدتي عن الحرب تأملية أو وصفية، بل صارت مشياً حافياً على الحافة بين الحياة والموت.
– أقول: ليس هناك شعر سوري له خصوصية جمالية تجعله يتميز عن الشعر المكتوب في البلدان المجاورة ما هو رأيك بذلك؟
أوافق الرأي بأن الشعر السوري، بمعناه العام، لا يتميّز بخصوصية جمالية حادّة تفرّقه جذريّاً عن الشعر المكتوب في البلدان المجاورة، وخصوصاً في بلاد الشام، حيث تشكّلت، عبر عقود، ما يمكن تسميته ببيئة شعرية واحدة، تأثرت بقوة بالتجربة اللبنانية، التي تأثرت بدورها بالمدرسة الفرنسية، سواء في شعر التفعيلة أو في قصيدة النثر.
هذا التمازج والتأثير المتبادل جعل أصوات الشعراء في الشام تتقاطع لغويّاً وجماليّاً، وتنتمي، في الغالب، إلى بنية شعرية متشابهة.
شخصياً، ومنذ ديواني الأول “نون الرعاة”، انتميت إلى مدرسة مختلفة، غير مؤسسة لكنها شقت طريقها، ولا تنتمي إلى السياق الشامي صوتها الأول، كما أراه، كان الشاعر الراحل عبد اللطيف خطاب، الذي كتب قصيدة تنتمي إلى بيئته، إلى فصاحة لغته، ورؤيته لمحيطه والعالم، لا إلى النمط السائد في النثر الشامي.
صحيح أن تجربتي لا تتطابق مع تجربة الغرنوق الدنف “خطاب”، لكنها تنبع من الينبوع ذاته: من الجزيرة، من الفرات، من ذلك الحس الصحراوي واللغوي المختلف، وكذلك من نمط العيش والعلاقات الاجتماعية المتمايزة عن “البيئة الشامية”، وهذه التجربة قد نجد له تقاطعاً، ولو طفيفاً، في مدرسة قصيدة النثر العراقية لا الشامية.
فأنا ابن تراث بلاد بين النهرين، التي كُتبت فيها أول قصيدة في التاريخ.
بهذا المعنى، لستُ ابناً لمدرسة مقلِّدة لأحد، حتى عندما مالت قصيدتي إلى البساطة في اللغة، والتقشف، والتأمل، وتخففت من البلاغة وسطوة الصور الشعرية المركبة.
وهذا لا يعني مطلقاً أنني لا أنهل من تراث القصيدة العربية، منذ فجرها الأول وحتى الشعراء الذين جاؤوا بعدي، لكن من يقرأ تجربتي، التي تمثلت في تسعة دواوين، آخرها يُقال أعمى: الديوان الأندلسي وقصائد إيلينا، سيلاحظ أن كل ديوان منها هو تجربة لغوية وتعبيرية وفنية مختلفة لا تشبه الأخرى.
لم أستقر على شكل أو مضمون، وهذا لا يعكس قلق الشاعر فحسب، بل تفكيري المستمر في أدوات قصيدة النثر، كل تجربة حياتية مررت بها انعكست بشكل تعبيري مختلف.
إذاً، لم أكتب قصيدة نثر “شامية”، بل قصيدة نثر عربية، تنتمي إلى تربة أخرى، إلى بيئة لغوية وجمالية أقل تكلّفاً وتبسيطاً متشافهاً، وأكثر جذرية في علاقتها باللغة، والبيئة، ومكان العيش وعلاقاته، والعالم.
– خرجت من حلب شاباً يافعاً في أواخر سنة 1993 وتنقلت بين السعودية واليونان والإسكندرية وإسطنبول واليونان مجدداً ثم السويد، إسبانيا وأخيراً مسقط؛ دمشق الآن حرة ما هو شعورك من جهة؟ ومن جهة أخرى حدثني عن عناوين أمكنة المنفى؟
خرجتُ من الرقة إلى حلب مراهقاً في السابعة عشر، فدخلتُ عالماً آخر، لا يشبه بيئتي الزراعية المنفتحة، حلب، رغم عظمتها وحبي لها، كانت مغلقة اجتماعياً، طبقيتها صامتة، ومدنيتها لم تكتمل، شعرتُ فيها بالاغتراب، وكانت صدمتي الأولى مع “المدينة”، وهناك ربما وُلدت القصيدة الأولى، من شعور التنافر والبحث، في مطلع 1993، غادرت حلب شاباً يافعاً، بحثاً عن عيش أفضل.
لم تكن الهجرة قسرية حينها، لكنها تحولت لاحقاً إلى منفى طويل بعد أن أصبحتُ مطلوباً لمخابرات النظام، لم أكن أعلم أن العمر سيمضي متنقلاً بين محطات لا تشبه بعضها، لكنها شكّلت تجربتي الشعرية.
في السعودية، عرفتُ العزلة الثقيلة، لكنها منحتني تأملاً داخلياً ووضوحاً لغوياً مبكراً، وشعوراً مبكراً أيضاً بأنني خارج “الوسط الثقافي السوري” وعلاقاته.
في اليونان، تأملتُ دورة الزمن، كنت أمشي في آثارها وأسأل: ما مصير الحضارات حين تصمت؟ سؤالٌ تسرّب إلى ديوان “التنزيل”، واستبطن شعوري إزاء مصيرنا العربي المشابه.
في الإسكندرية، المدينة العائمة على ذاكرة البحر ولطافة ناسها، أدركت هشاشة الذاكرة، فقد بددت لي فكرة الحنين إلى البلاد وكنت أحلم أن تكون مستقري الأخير.
أما اسطنبول، فكانت عتبة إلى الغرب، عشت فيها على الهوامش، كسوري غريب لا يتكلم لغتها.
أما السويد فقد كانت لجوء المهزوم بعد انكسار الثورة، منحتني الهدوء والثلج والعنصرية معاً، وهناك كتبت “لنكتب عن السويد” وهو يعكس بشكل أساسي محنتي مع العنصرية التي كسرتني بالآخر واضطرتني إلى الهجرة مجدداً بعد حملي جنسيتها.
في إسبانيا، في الكناري أولاً تلك النقاط العائمة في وسط الأطلسي، ثم الأندلس، شعرت أني لا أزور أرضاً جديدة، وجدتُ مكاناً أعرفه وأعرف أهله، كنت أمشي في غرناطة وقرطبة وإشبيلية كأنني أبحث عن أثر زمنٍ ضاع من عمري، عن ظلّ الكلمات التي قيلت ثم صارت في الحجارة والبيوت التي لا تزال شاهداً على زمنٍ طويل.
اختبرتُ المنفى العكسي، حيث الذاكرة أقدم من الخطى، ومن هذه الرحلة، ولدت قصائد ديوان “يُقال أعمى: الديوان الأندلسي وقصائد إيلينا” تأملت فيه الخسارة والهزيمة والفقد الحضاري.
الأندلس منحتني لغة ثالثة، مكاناً أكتب منه منفياً وحرّاً وتمنيت أن تكون ختام رحلتي وفي أمنياتي أن أختم حياتي هناك.
أما مسقط، فليست نهاية المنفى، بل محطة أعيشها بحذر الشاعر الذي لا يثق بوصولٍ نهائي، كل مدينة من هذه المدن منحتني شيئًا: مفاتيح للغة، لتجربة، ولطريقة أخرى لرؤية العالم، كل مدينة كتبت فيها وتركت في لغتي إيقاعاً، وكلها كانت منفى بشكل أو بآخر، منفى الجغرافيا، ومنفى المعنى.
أما دمشق الآن، سأكون صادقاً، رغم أني بكيت أياماً وأنا أراها حرّة مثل كثير من السوريين فقد غابت في ذاكرتي تحت طبقات المنفى متهيباً من العودة إليها متردداً، فهي ربما لن تعرفني ولن أعرفها بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود من عمري خارجها، لكن هذا اللقاء وهو الأول لي مع صحيفة سورية يمثل عودة رمزية ربما.
– كيف تنظر إلى طبقات القمع الثقافي الأسدي؛ وكيف ألقى بظلاله على النتاج الشعري العام من جهة ونتاجك الشعري الفردي من جهة أخرى؟
لم يكن القمع الأسدي مؤثراً على جوهر الكتابة الشعرية، فالشعر بطبيعته يعتمد على المجاز والتلميح، ويملك من المراوغة البلاغية ما يحميه من الرقابة المباشرة، لكن الأثر الأعمق كان خارج النص: في النشر، والمشاركة، والانتشار، احتكر النظام مؤسساته الثقافية ودور النشر وأغلقها على زبانيته، وخلق مشهداً زائفاً لا يمثل تنوع الأصوات ولا صدق التجربة، ومع ذلك، تمكّنا من تثبيت حضورنا خارج هذه المؤسسات، في فضاءات مستقلة أو في المنافي، حيث باتت القصيدة قادرة على أن تُنشر وتُقرأ من دون أن تمرّ عبر بوابات أجهزة الأمن أو لجان التلميع الرسمية.
– هل تمكن نتاجكَ الشعري أن يصل للقارئ السوري؟
وصل نتاجي الشعري إلى بعض القرّاء السوريين عبر الفضاء الرقمي، بعد أن جعلت كل كتبي متاحة بنسخ إلكترونية مجانية، لكن حتى هذا الفضاء لم يكن بلا حواجز؛ فقد عمد النظام البائد إلى حجب معظم المواقع والمنصات التي كنت أنشر فيها حتى أني أطلقت على نفسي “كاتب في مواقع محجوبة”، كانت الرقابة تمتد حتى إلى الشبكة، وتمنع تدفّق النصوص المختلفة عن صوته.
لهذا، وعلى نحو متناقض، صرت معروفاً أكثر في العالم العربي من معرفتي في الوسط السوري، وكأن حاجز الصمت في الداخل لا يُخترق بسهولة، حتى حين تكتب من خارجه.
ومع ذلك، بقيت أثق بأن القصيدة تعرف طريقها، ولو ببطء، إلى من يتقصّدها، وفي هذا السياق، لم تُمنع كتبي وحدها من الوصول إلى القارئ السوري، بل حتى موقع جدار الثقافي الذي أسسته تم حجبه، وكذلك “دار جدار للثقافة والنشر”، التي كنت شريكاً في تأسيسها في المنفى وأصدرنا عبرها عشرات الكتب، بقيت مغيّبة تماماً عن وسائل الإعلام السورية.
لم تُنشر حتى اليوم، ولو مرة واحدة، إشارة أو خبر عن كتاب من إصداراتنا، وكأن ما ننجزه لا يُرى، أو يُراد له ألا يكون موجوداً أصلاً.
– كيف جاءتك رغبة إرتكاب كتابة الشعر؟
لم أخطط يوماً لأن أكون شاعراً، ولم أتخذ الشعر مشروعاً واعياً.
وحتى اليوم، بعد تسعة كتب شعرية، وترجمات إلى لغات عديدة منها الإنجليزية والألمانية والسويدية والإسبانية، ما زلت أنظر إلى الأمر بشكّ.
أشعر أن الشعر يأتيني لا كخيار بل كفعل اضطراري حين تضيق بي الحياة، كأنني أكتبه حين لا أجد شيئاً آخر أكثر أهمية لأفعله.
كتبت مرة: “الشعر هو ما أرتكبه في أوقات الفراغ”.
هذه الرغبة لم تكن قراراً بل قدراً مراوغاً، يظهر في العزلة، ويختفي حين يزدحم الواقع بما يستدعي الحضور الكامل.
– كيف تنظر اليوم إلى ظاهرة الجوائز الأدبية في العالم العربي؟ وهل تحلم أن تحصل على نوبل للآداب؟
رغم أنني نلت جائزة عربية في الشعر في بداياتي، وأخرى في كتابة المونودراما عن أول نص كتبته، ما زلت أرى الجوائز الأدبية، عربياً وغربياً، بما فيها نوبل، محكومة بعوامل تتجاوز القيمة الإبداعية، هناك دائماً شروط غير معلنة، سياسية وثقافية، تحكم منح الجوائز بغض النظر عن قيمة النص الإبداعية، وكثير ممن حازوها يستحقونها، قلت ساخراً لأصدقاء، بعد أن أصدرت كتابي الشعري النقدي “لنكتب عن السويد”، قررت أن أضحّي بنوبل وأنشر هذا الكتاب، فقد انتقدت فيه العنصرية السويدية بشراسة ووضوح دون تجن بما في ذلك نظرة “الرجل الأبيض” لنا كلاجئين وشرق أوسطيين.
بعد هذا الكتاب، صار الحصول على نوبل مستحيلاً حتى لو لم يبق مبدع في العالم سواي.
ودون أي تواضع، فهناك من نالها دون أن تكون تجربته الكتابية أعمق أو أكثر تأثيراً مما كتبت.