الثورة – أحمد صلال – باريس:
خاضت تجربة الكتابة بقلب أنثى محبة للرومانسية، دخلت عالم الكتابة والإبداع عن حب وعشق، حملت على عاتقها مسؤولية أن تكون مبدعة دائماً، ولهذا فهي لا تكتب سوى ما تقتنع بأنه مميز وجديد.
في كتاباتها التي تمرر من خلالها نظرتها للعالم، ويتداخل فيها القمع الاجتماعي مع القمع السياسي والاقتصادي، تواصل الروائية شادية الأتاسي تقديم أعمالها في عالم الرواية، التي دائماً ما تثير الجدل، لكشفها عن المسكوت عنه في مجتمعاتنا، والخروج على آليات السرد المتعارف عليه، وتسجل وجهة نظرها عن العالم، وتمرر الحقائق عبر ما تكتبه من أعمالها الروائية “تانغو الغرام” و”إعصار عذب”.
صحيفة “الثورة” كانت قد أجرت الحوار الآتي مع الروائية شادية الأتاسي..
– “تانغو الغرام” رواية رقصة التانغو فيها تحتاج إلى شريكين لإنجازها، فإن الحرب في سوريا، وما أفرزته من نتائج خطيرة على البشر والحجر، حالت دون ممارسة هذه الرقصة، وآلت العلاقات القائمة أو الممكن قيامها، بين الثنائيات المختلفة، في الرواية، إلى الانفصال أو الإجهاض، وهل تتفقين مع هذا الطرح؟ أجل هذا ما حدث إلى حد كبير، رقصة التانغو أو رقصة الوداع، تحتاج إلى حرية المساحة ليتسنى للشريكين ممارسة حركات اللف والدوران والرجوع والتقدم، وهي هنا كناية عن الحرية المفقودة والحب المبتور الذي فشلت الثنائيات، بل وكل الأطراف في تحقيقه.
في الحرب أنت متورط، شئت أم أبيت، بالدخول في عمق الكارثة السورية، في الحرب لم تعد أنت، تفاجأ بأشياء كنت تحسبها ثابتة، يدهشك أن تدرك أنها تتغير، وكم هي الأنا داخلك هشة، سهل اقتلاعها، أمام هجوم عاصف لتحولات كبرى، فرضت نفسها بقوة، الحرب وضعتنا أمام ذواتنا، قالت لنا بجلاء: “هذا أنتم، تعرفوا على أنتم”.
حاولت الرواية أن تهجو الحرب والقتل والاستبداد، وتنتصر للحب، لكن القاعة السورية الخانقة من جهة، والعالم الذي أدار ظهره كانت أضيق من أن تسمح للحب أن ينتصر ويمارس رقصة التانغو في فضاء حر.
– هل مات الحب مع بدء الحرب السورية؟ هكذا، تواجه الراوية الواقع بالهرب منه، عبر الذاكرة، إلى الماضي، بذكرياته الجميلة التي تخفف من بشاعة الحاضر أو بذكرياته القاسية التي تجعل قساوة الحاضر أخف وطأة وتواجهه بالهرب منه عبر المخيلة إلى المستقبل؟.
لست مع النغمة التي تقول يموت الحب، الحب قيمة أصيلة لا تموت حتى لو لم ينتصر، ليس المهم أن ينتصر، الأهم هو أن تبقى جذوة الحب مشتعلة.
وفي رواية تانغو الغرام اختارت المرأة طريقاً مختلفاً للوصول للحب، ابتدعت حياة موازية لتكسر مرارة الواقع، عاشت قصة حب معقدة مع روائي، تراءى لها أنه خرج من روايته، في أحد الليالي الباردة، حيث تداخل الحلم مع الحقيقة.
“كنت أبتعد عن مسار حياتي المعتاد، أضع قدمي في طريق ممسوس بالغموض، أزداد توغلاً به، أردت وأحببت هذا التوغل، لم أحاول منعه أو الوقوف في وجهه، ولا إلى أين يمكن أن يقود، حياتي الحقيقية كانت معه فقط”.
– في رواية “إعصار عذب” حرصت على أن تكنس عن الحدث قسوته وبشاعته وعنفه، ليصير له بعداً شاعرياً عذباً.
كيف تحولين لحظة الوجع ليصير له هذه الأبعاد العاطفية؟
أنا أنجو بالكتابة، أخوض فيها حربي الناعمة مع ذاتي، أبحث عن جمال روحي واستشف قدرتها على انتزاع عوالم خفية من داخلي، وبهذه الروح انخرطت في كتابة روايتي “إعصار عذب” التي بدأت في حي المهاجرين الدمشقي وانتهت على الرصيف الضيق الموازي لبحيرة ليمان السويسرية، وبهذا الشجن كتبت حكاية سليمى التي عاشت محنة الاغتراب عن الوطن، والبحث عن وطن بديل، ليأتي بحثها قرين البحث عن ذاتها، عميقاً في الوجدان بقدر ما هو في التأثير الفكري والثقافي، وهي تبحث عن ذاتها في بلد تحاول أن تنتمي إليه، جعلت من نفسها موضوعاً للتجربة والبحث، كيف تواجه تحدي حياة وثقافة ولغة مختلفة؟ كيف يمكنها تجاوز مشكلة الاختلاف؟ ثم هل يمكن تجاهل مسألة الحنين؟ كيف تكون موضوعية أمام بلد يبهرها جماله، قد لا تنصفه حين تعتبره محنة، محنة تكشف عن العوز الأبدي الذي يلازم الغريب، الذي انتقل إلى فضاء غير فضاءه، في مدينة ساحرة الجمال.
– هل فعلاً أثرت الجوائز العربية الجديدة في مضامين الرواية وساهمت في توجيهها؟
أميل إلى هذا الرأي، لا يخفى أن الجوائز الأدبية العربية مثل البوكر، وجائزة الشيخ زايد وغيرها، كان لها أثر واضح على مسار الرواية العربية، بما فيها السورية، من حيث المضمون والتنوع و البنية السردية، والتركيز على “وصفة” ترضي لجان التحكيم مما قد يخلق ما يسمى “موضة” روائية “ترند”، بعض الكتّاب أصبحوا يميلون لطرق مواضيع “كبيرة” وذات بعد سياسي أو تاريخي “وأنا منهم”، خاصة تلك التي تتناول الحروب، الهويات، الاستبداد، والمنفى، لأنها غالباً تحظى بالاهتمام، والبعض الآخر أصبح يميل إلى النصوص التي يمكن أن تُترجم وتُقرأ عالمياً، فانصرف بعضهم يكتب لعين القارئ الأجنبي، مع بساطة نسبية في اللغة، وبناء سردي قابل للنقل الثقافي.. ومع ذلك من الخطأ التعميم، مازال هناك كتاب أحرار بعيدون عن نغمة الجوائز، يكتبون عن قضايا الذات والوجود والمصير والجمال والقبح. وهناك أمر آخر، قد يعتبره البعض أو الكثير إيجابياً، لقد ازدادت وتيرة النشر، الصحفي والشاعر وحتى الذي لم يمسك قلما بدأ يكتب رواية.. لما لا لعل الحظ يبتسم له يوماً.!.
بمن تأثرت في بداية كتاباتك الروائية؟
أعترف أنني أرتبك في كل مرة أواجه هذا السؤال، أجد صعوبة في الإجابة، لا أخفي أنني في بعض المرات كنت ابتدع أي إجابة لأسماء كتاب كبار، خوفاً من أن أتهم بأنني لم أقرأ لكُتّاب كبار، في الواقع لقد قرأت في مطلع شبابي، سحرني الأدب الروسي شغفت ببلزاك ورسو وكبار الأدباء الفرنسيين، أغرمت بواقعية نجيب محفوظ، وعشت عذابات حنا مينا، والمدهش أنني حين ابتدأت، وجدت نفسي وحيدة على طاولة الكتابة، حاولت أن أستدعي البعض منهم، لم أفلح، شعرت بالخذلان، الجيد أن هذا لم يستمر طويلاً، أنصت لحديث الكتابة في داخلي، كان أقوى من أن لا أنصت إليه.
لماذا ترين أن الروائيين السوريين لم يستوعبوا جيداً مفهوم الرواية الجديدة؟
أرى أن الكتابة عمل شاق.. وعلى رأي همنغواي: “تبدو الكتابة سهلة إلا أنها في الواقع أشق الأعمال في العالم”.
وعلى هذا فهي عملية خلق مستمرة، ما حدث هو أنه اختلفت الرؤية، الدوافع، ربما الأسلوب، بالتأكيد فما بعد انطلاق الثورة ليس كما قبلها، لكنني لا أستطيع القول: إن الروائيين السوريين لم يستوعبوا مفهوم الرواية الجديدة، قرأت للبعض منهم، أعتبر أنه ليس لدي رفاهية أو الحق في تقييم استيعاب مفهومهم للرواية الجديدة، وليس لدي أي فكرة فيما يخص هذا الأمر، هذا الأمر متروك للنقاد، وربما للزمن.
– أحيانا يحسّ القارئ أن الروائي السوري الجديد صار مشغولاً ببعض الألاعيب السردية على حساب الكتابة، هل يدخل هذا الأمر في سياق سوء فهم للرواية الجديدة؟
ما تشير إليه يدخل بالفعل في نقاش واسع في النقد الأدبي العربي وربما العالمي، ويتعلق بما إذا كانت التجريبية السردية في الرواية المعاصرة ومنها الرواية السورية الجديدة تُثري النص أم تُفقده روحه.. هذا يعتمد إلى حد كبير على الخلفية الثقافية والفكرية للقارئ، بعض القراء يميلون إلى النمط الكلاسيكي، ويرون في أي تجريب مناورة فارغة، ويشعرون أن الكتاب الجدد حين يعمدون إلى التلاعب بالشكل والأسلوب كتقطيع الزمن، أو تعدد الأصوات، أو كسر التسلسل التقليدي، إرباك يشتت القارئ.
فيما يتعلق بي، أجد في نفسي هوى لهذا النوع من التقنيات، أنجذب إلى ذلك النوع من التوتر المدهش الذي يجعل الرواية تعج بالحياة و الحيوية والأسرار، وبعض الغموض الخفي، لما لا! هذا يضفي مزيداً من القيم الجمالية والفكرية، أعترف أن الأمر ليس سهلاً، يتطلب الكثير من المناورة، كي لا يتورط الكاتب على حساب النص الروائي، ولا يؤدي إلى إرباك القارئ، فيما إذا تحولت التقنيات السردية والتجريب المفرط، إلى قطع صلة القارئ بالنص، باستعراض شكلي بلا مبرر، بعيداً عن هموم الإنسان والواقع، ما يجعل النص أشبه بتمرين أسلوبي أكثر من كونه تجربة روائية مكتملة.
– كيف تقرأ الروائية شادية الأتاسي الرواية الراهنة في سوريا؟ هل نحن فعلاً أمام تحوّل أدبي أم أن ما نعيشه هو فقط وفرة في الكتابة؟
مفردة انفجار معبرة تماماً، هناك انفجار مدهش في الإنتاج والنشر شهدته الرواية في العقد الأخير، لكن الملفت للنظر أنّ القلم النسائي برز بجلاء، يمكن ملاحظة هذا في جائزة البوكر العربية، أغلبية الروايات الفائزة في العشرية الأخيرة كتبتها نساء، من بينهن كاتبات سوريات، كتبن عن الانتماء والهوية والوطن البديل، جريئة في لغتها وتجربتها، هذا مؤشر وحيد، كان لابد من الخروج من القوقعة الذاتية، وكسر التابوهات المحرمة إلى فضاء أكثر شمولية وإنسانية.
ربما ينتقد البعض هذا الانفجار في الإنتاج والتساهل من قبل دور النشر لمن يدفع، خوفاً من أن تدفع الرواية الرديئة، الرواية الجيدة وتتصدر المشهد، عملاً بالمثل القائل “العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق”، وهذا صحيح إلى حد ما، لا يمكن نكران هجمة الرواية الرديئة في غمرة وفرة الإنتاج، وتأثيرها على التذوق الفكري والأدبي العام، لكن هل يدوم هذا؟ أعتقد لا، هي موجة ستختفي حين تلامس أرض الشاطئ، يذهب الزبد جفاء، في حين تفرض الرواية الجيدة نفسها في النهاية وتبقى.