الثورة – رنا بدري سلوم:
“في الأشهر الأولى لحبسنا، وفي الغرفة الرابعة كنا فسيفساء غريبة من كل الأطياف السياسية، كانت حقوقنا هي الأضعف، خمس فتيات مع أغلبية المعتقلات من باقي التهم في السجن “توحيد، القوات، تجسس” كنا الأقدم، عندما جئنا، أخفناهن، ذكرناهن “بالصهيونية” هكذا أتى التعبير على لسان بعضهن، لقد أتينا لنحتل جزءاً من المكان المخصص لهن في السجن، فنحن أعداد مفتوحة، وهن بعد عشر سنوات من الاعتقال، يصعب عليهن التخلي حتى عن فراغ عشر سنتيمترات تركوه بين الواحدة والأخرى، بعد وعود الشرطة أننا لن نبقى أكثر من خمسة أشهر وجهود من الترجي، استغنين عن الفراغات ليصبح لنا ثلاثة أماكن، المكان هو عرض 70 سم والذي هو عرض فراش ضيق نتناوب عليه في النوم، ويشترط على الساهرات الهدوء التام.
أعطونا أسوأ مكان في الغرفة، بجانب الحمام ورفوف المؤونة، وجود نساء لا يتقبلن الأخريات، ولم يمنع ذلك وجود أخريات لطيفات يعرفن تقدير الصداقة مع الآخر، جمعتنا بهن علاقات حميمة، كنا نستطيع الكلام معاً في أي وقت، لأننا في نفس الغرفة وبنفس المزاج، نلتقي بعد إطفاء النور في الثانية عشرة ليلاً على شبك باب الغرفة، نطير بأجنحتنا ونتأمل السماء حالمات بغد أفضل.. سماء تبدو كسقف عالٍ جداً نتيجة علو الجدران، أشبه بالأضواء الكاشفة الموزعة على زوايا السجن لمراقبتنا، دائرة كبيرة ومضيئة، ما زلت حتى الآن لا أحب القمر بدراً لأنه يذكرني بذاك المكان”. حديث بدأته المعتقلة السابقة المهندسة أميرة حويجة، مع صديقتها الإعلامية سمر شما، اللتان قبعتا في سجون نظام الأسد الأب البائد أربع سنوات ونصف، اللتان اعتقلهن عام 1987، لأنهن طالبن بالحرية والعدالة والتغيير، حديثنا معهما كان محض صدفة حين التقينا بهما لحضور فيلم “الداخل مفقود والخارج مولود” بسينما الكندي بدمشق، في كل لقطة تعذيب في مشاهد الفيلم الوثائقي الذي يفضح الجرائم الإنسانية للنظام المخلوع تفيض عيناهما بالغضب، وتقولان ليخففا عني حدة المشاهد: إنها الحقيقة المُرة التي عشناها في “القفص” والتي نستردها الآن معاً.
رواية لم ترَ النور
راسلت حويجة، التي تربت على الأدب العالمي والانفتاح الفكري- غير المقبول في تلك الفترة لامرأة مثقفة تعرف تماماً أين يكون دورها وكيف تمارس حريتها- وإن كانت حبراً على ورق خلف قضبان السجون، كتبت لابنتها التي غدت طبيبة فيما بعد: “كان ذلك هو اللقاء الأخير لنا، حتى زيارتك الأولى لي في سجن دوما، كان مرّ على ذلك اليوم أكثر من ثلاث سنوات، إذاً وعدي كان كاذباً، تحملت ما لا تستطيع الورود أن تتحمله، وتحملت أنا ما لا تستطيع الجبال أن تحتمله، اغتصبت آلة القمع أمومتي ووضعت مكانه شعوراً لم يفارقني حتى هذه اللحظة، شعور بالذنب تغلب على الأهداف السامية التي جعلتني أتحمل الحرمان من الأمومة، نعم لقد أدرت الظهر لأمومتي في سبيل الحرية”.
صوت جريء
في وقت تحلم الإعلامية في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون سمر شما والتي اعتقلت عام 1987، بدولة قانون، تحترم كرامة الإنسان وحقوقه، رافضة دولة السجون والاعتقالات والبلطجة، تحلم أن تقوم بدورها كامرأة يحترمها الآخرون يكون لها حقوق في قوانين الأحوال الشخصية وأبسطها “الميراث، الطلاق، وغيرها من القوانين التي تنصف المرأة حق إنصاف”.
في كل لحظة في حديثنا معهما تعيدانا إلى مشاعر الاعتقال والانفصال وكأن الفيلم المعروض قد فتح ملف المواجع لمثقفات ومعارضات رأي وفكر لم يستطعن أن يتغلبن على مشاعرهن كنساء عاطفيات، تقول حويجة: “اعتقلنا أنا وزوجي “مضر الجندي” الذي توفي تحت تعذيب سجون النظام الوحشي المخلوع، اعتقلنا في أكثر أيام الشتاء برداً في 2-12- 1987 كان رئيس الدورية قد زارنا في اليوم الذي سبق، بحجة الكشف عن تمديدات الهاتف عند الجيران للتأكد من وجودنا على ما يبدو، كنا مراقبين بدقة عالية، وبعدم انتباه عال من قبلنا، رغم كل الحذر الذي تعلمنا إياه وتدربنا عليه، ورغم كل التمويه الذي قمت به، عبر عناصر الأمن عن افتقادهم لي في الشوارع لمدة أسبوع، أشار أحد العناصر فرحاً: إنها أم الزهري، إشارة إلى لون ملابسي في تلك الأيام.
جنة التغيير.. قلبت جهنم
تضعنا حويجة في لحظات التعذيب هي زوجها وصديقتها الشما: “عندما أدخلونا باحة التعذيب، فوجئت أن كل المنظمة “حزب العمل الشيوعي” تقريباً في تلك البقعة التي تضج بالظلم، سبقونا لاستقبالنا، ثلاثة هي وهو وأنا، ثلاثة ضمائر اثنان منها غائب المفرد، وثالث مفرد المتكلم الذي سينعقد لسانه أمام هول ما يجري، وكنا الثلاثة في غياب، لن يعترف به صراحة أحد قبلي بحسب اعتقادي، وأقصد بذلك الإعلان الذي أتقدم به الآن، شباب عراة من الثياب الخارجية في جو الصقيع، كانوا يرتجفون ربما من البرد وربما من الخوف، وربما كنت أنا من ترتجف ومن الممكن أن يجتمع الخوف والبرد والشجاعة في لحظة خاصة في مثل تلك اللحظة.
في اليوم التالي كانت جولة تعذيب مميزة لأنهم اعتقدوا أنني راوغت، جولة تعذيب تناوب الضباط على إتمام الفلقة وأنا مفتحة العينين، من دون طميشة، كنت أخالهم وحوشاً في كابوس سينتهي، وأريد النجدة من قدرتي على التحمل، فعلاً انتهى الكابوس من دون نتائج.. وأي نتائج؟ كنت من الأخيرين، لم يتبق شيئاً أخبئه إلا ما في النيات، الجميع هنا والقليل الباقي لن تصلوا إليهم إلا إذا أرادوا ذلك، انتهى الكابوس، نهاية مأساوية فقد خرج ما في جوفي في ثيابي، حصل ذلك، منظر مخجل عادة، ولكنه هناك كان أمراً طبيعياً في وجه وحشية ليس لها مبرر.
الحرية التي نستحق”
من المهم أن تنتمي إلى جمع يبحث عن باب للدخول في جنة التغيير، تمسك بأسلحتك الخاصة في المعرفة والوجود، وحدها ستحميك عندما تختفي الأيدي التي افترضت أنها ويديك متشابكة في رحلة تصل بكم إلى بر الأمان، وحدها تفيدك في إعداد نفسك جيداً لكل الاحتمالات، وحدها مع مساحة الحرية التي انطلقت بها إليهم تسمح بتأسيس قانون عادل يربطك بهم وبغيرهم، حين تتركها تترك وغيرك كل الحريات، في لعبة الخائف الذي لا يعترف بخوفه والمخيف الذي لا يعترف باستبداده” بهذه الجملة أنهت حويجة حديثها بعتب.. “خرجت بأمل أن آخذ حقوقي بعد كل الظلم الذي تأكدت منه، خرجت إلى فراغ، جلت في كل أركانه، وكان كل شيء يؤكد لي أن هذه الجولات لن تكون بفوائد شخصية إلا إذا دفعت الثمن، وبداية الثمن أن أشعر الجميع بضعفي وعدم حاجتي لأحد، متناقضات تحكم الكثير من العلاقات، القوة ترهبهم إذا تحلت بها المرأة، لأن قوة المرأة جارحة لرجال لا يجدون ضرورة للصدق في العمل.