الثورة – عبير علي:
أقيمت في قاعة المعارض بالنادي العربي بدمشق، محاضرة بعنوان: “ابن عربي في دمشق” ألقاها الباحث الدكتور بكري علاء الدين.
افتتح الدكتور بكري محاضرته بالتعريف بشخصية ابن عربي وحياته.. وقال: وُلد الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في مدينة مرسية في الأندلس عام 560هـ/1165م في أسرة عربية أندلسية تعود أصولها إلى قبائل طيّئ وخولان، انتقلت أسرته إلى إشبيلية بعد دخول الموحدين، وكان والده ضابطاً ذا مكانة، والدته تتمتع بنسب أنصاري خولاني.. نشأ ابن عربي في بيئة دينية وصوفية تأثر بوالديه وتربّى على يدي بعض النساء الصالحات، تزوّج عدة مرات ولديه أبناء، من بينهم محمد الكبير.
انتقل ابن عربي إلى المشرق عام 596هـ ولم يعد إلى الأندلس، إذ زار القاهرة ومكة والمدينة وبغداد والموصل، قبل أن يستقر في دمشق عام 620هـ، ظل يُعلّم ويكتب حتى وفاته سنة 638هـ، حيث دُفن بجبل قاسيون.
مؤلفاته وأفكاره
سلط الدكتور بكري الضوء على التراث الواسع الذي تركه ابن عربي، والذي يُعتبر من أهم المصادر في التراث الصوفي والفكري، من بين أبرز مؤلفاته التي تم ذكرها: “الفتوحات المكية”، “فصوص الحكم”، “روح القدس”، و”الدرة الفاخرة”، وقد تميزت كتاباته بالجمع بين الكشف الصوفي والتفكير الفلسفي، وبالأخص فيما يتعلق بقضايا الوجود والخلق.
طرح ابن عربي، كما أشار الدكتور بكري، مجموعة من المفاهيم العميقة مثل “وحدة الوجود”، “الإنسان الكامل”، “التجلي الإلهي”، و”الخيال” كصورة للوجود، بالإضافة إلى ذلك، أولى اهتماماً خاصاً بعلم الحروف والأعداد، وكان يؤمن أن لكل حرف ورقم في القرآن أسراراً كونية وروحية.
في نظره، الوجود لا يُعتبر مجرد انتقال من العدم إلى الوجود، بل هو تجلٍّ مستمر للإرادة الإلهية، يتم التعبير عنه بكلمة “كن”. كما اعتبر أن الأسماء الإلهية لا نهائية، وأن الإنسان الكامل يمثل أكمل تجليات هذه الأسماء.
الفتوحات المكية
وانتقل الدكتور بكري بعدها للتعريف بكتاب “الفتوحات المكية”، الذي يُعتبر الموسوعة الكبرى لابن عربي.. بدأ تأليفه في مكة سنة 599هـ، وأكمل نسخته الأولى في دمشق عام 629هـ، ثم أعاد كتابته في نسخة ثانية شهيرة عُرفت “بنسخة قونية عام 636هـ، التي كُتبت بخط مغربي واضح في 37 مجلداً، خصصها لابنه محمد الكبير، وأوقفها تلميذه صدر الدين القونوي على مكتبة قونية.
وأوضح أن الكتاب يضم أكثر من 1.7 مليون كلمة، وما يزيد عن عشرة آلاف استشهاد بالقرآن وثلاثة آلاف حديث، إضافة إلى آلاف الأبيات الشعرية، كما تميز الكتاب بترتيبه الرمزي في عدد الصفحات والأسطر، مما يعكس إشارات صوفية عميقة، أُنتجت عدة طبعات من هذا الكتاب، منها طبعة بولاق عام 1858 التي اعتمدت على مخطوط السليمانية، وطبعة القاهرة التي صدرت في عام 1910.
كما تحقق عثمان يحيى في القرن العشرين من الكتاب، إذ اعتمد على أربعة مخطوطات، وفي عام 2010، ظهر تحقيق جديد شامل للأستاذ عبد العزيز المنصوب وفريقه في 12 مجلداً، أعيد طبعه منقحاً في 13 مجلداً سنة 2017.
جدل حول شخصيته وفكره
وتطرق الدكتور بكري إلى شخصية ابن عربي التي كانت موضع جدل كبير، إذ أقام علاقات مع عدد من علماء عصره، مثل: ابن رشد، والعز بن عبد السلام، ومن بين تلاميذه الأبرز عبد الله بدر الحبشي، إسماعيل النوري، وصدر الدين القونوي، الذي كان خليفته الروحي.
من جهة، أثنى عليه بعض العلماء مثل الإمام الشيرازي، معتبرين مؤلفاته من أرقى العلوم الدينية، ومن جهة أخرى، انتقده علماء آخرون، وأشدهم ابن تيمية، الذي رأى في آرائه حول وحدة الوجود خلطاً بين الخالق والمخلوق، ومخالفة للعقيدة الإسلامية، رغم اعترافه بقيمة بعض كتبه.
هذا التباين في الآراء حول ابن عربي وجوهر أفكاره جعل منه رمزاً للجدل بين أنصار التصوف الفلسفي ومعارضيه، حيث يعكس الصراع بين المفكرين الذين يرون أن هناك تكاملاً بين الفلسفة والتصوف، والذين يرون في ذلك مساساً بمبادئ العقيدة الإسلامية الأساسية.
أثره واستمرارية فكره
أشار الدكتور بكري إلى أن كتاب “الفتوحات المكية” ظل يدرس منذ حياة المؤلف في دمشق ثم في حلب، وفي القرن التاسع عشر، أعاد الأمير عبد القادر الجزائري عقد مجالس لدراسة الكتاب في دمشق، في المكان نفسه الذي شهد محاضرات ابن عربي الأصلية، كما ألّف الأمير كتاب “المواقف” متأثراً بتجربة ابن عربي، وقدم شروحاً على “فصوص الحكم” وفق رؤيته الصوفية.
وقد ركز ابن عربي في مقدمات كتبه على خطب رمزية، أكد فيها على تحقق مقام الخلافة المحمديّة، وبين تدرج العقائد من مستوى الجمهور إلى الخاصة، فخلاصة الخاصة، معتبراً أن المعرفة الصوفية وحدها تمكّن من إدراك الغيب والقدر.
في النهاية، يمثل ابن عربي شخصية محورية في الفكر الإسلامي، إذ جمع بين التجربة الصوفية والعمق الفلسفي، وتُعتبر موسوعته “الفتوحات المكية”، وكتابه “فصوص الحكم” من أعظم مؤلفاته وأكثرها تأثيراً، إذ تناولا قضايا الوجود والإنسان والخلق بلغة رمزية ومعانٍ روحية، ظل فكره مصدر إلهام للمتصوفة ومثار نقد للفقهاء والعلماء، ليبقى حتى اليوم أحد أكثر الأعلام إثارة للنقاش في التراث الإسلامي.