لطالما رَغِبتْ في الذهاب بعيداً، متجهة نحو مدن غريبة جديدة، تكتشف عبرها سحراً، لا ينسى، تمشي في دروبها لتلتقط ما يتركه عابر مجهول في روحها، ترحالها عادة لا يقف عند متحف أو مدرج روماني، فالحجر لا يبقى في الذاكرة، بل تلك اللحظة التي يضع فيها نادل فنجان قهوة على طاولتها بابتسامة تشبه دعوة للحياة.
في تونس، تعلّمت أنّ البحر قد يكون مرفأ آمنا من الألم، وأن اللونين الأبيض والأزرق قادران على تهدئة فوضى الداخل، حتى الآن ورغم مرور عدة سنوات على زيارتها لمدينة سيدي بوسعيد التونسية، حين تغمض عينيها لا تتذكر فقط بيوتها، ميناءها، بل ضحكة بائع السمك وهو يمازحها كأنه يعرفها منذ زمن.
في مصر، تهاوت أمام الأهرامات كما لو أنها حصاة في حضرة جبل، هناك شعرتُ أنها أصغر من أن تُحسب، ومع ذلك، فإن أكثر ما يطاردها ليس الحجارة، بل تلك المرأة التي جلست جوارها على ضفة النيل، تبادلتا نظرة صامتة، كانت أعمق من كلّ الشروح التاريخية.
أما في المغرب، فقد بدا لها كأنها مدينة خرجت للتو من كتابٍ قديم، الأسوار المزخرفة والأزقة الضيقة جعلتها تمشي داخل قصيدة، ومع ذلك، ظلّ الغروب في فاس مربوطاً بصوت سائق يروي لها عن مدينته كما لو أنه يقدّم اعترافاً شخصياً.
تسافر كي تذوب في الغياب لتصبح مجهولة، تضيع ذاتها على أرصفة لم تعرف خطاها يوماً، لتعبرها المدن تاركة شيئاً من روحها، قد تعود يوماً إلى بعضها، لكن تعلم أنها لن تعود كما غادرت، لأن السفر ليس صوراً للمدن، بل لحظات من المتعة تولد داخلنا على وقع حياة مغايرة لتعبرنا تلك المدن تاركة أثراً يعيق عودتنا منها يوماً.