الثورة – همسة زغيب:
من رحم الحاجة يولد الحوار، وحين تضيق السبل وتتكاثر الأزمات، تتكاثر الأسئلة.. في هذا السياق، التقت الباحثتان نرجس عبيد، ومنال الجبر في ندوة حوارية بعنوان “الخروج من الأزمات وتذليل العقبات”، استضافها المركز الثقافي في جرمانا أمس، لتغوصا في عمق العلاقة بين الإنسان وبيئته، وبين الإعلام وموقعه من الأزمة: هل هو ناقل أم صانع؟ مهدّئ أم مؤجّج؟ الندوة التي استقطبت حضوراً نوعياً من مثقفين وناشطين وفاعلين في الحقلين الاجتماعي والنفسي، تحوّلت إلى مساحة فكرية حية تجاوزت التنظير إلى التحليل العميق، مقدّمة رؤى عملية للتعافي النفسي والاجتماعي في زمن الاضطراب.
البيئة تصنع السلوك
في مداخلتها، ركّزت الباحثة منال الجبر على العلاقة الجدلية بين الإنسان وبيئته، مؤكدة أن البيئة ليست مجرد إطار لحياة الإنسان، بل العامل الأول في تشكيل سلوكه، وخصوصاً في غياب القانون، وقالت: “حين يُترك الإنسان من دون ضوابط، يعود إلى فطرته، التي تتلون بخيرها أو شرّها تبعاً للوسط الذي يعيش فيه”.
وقدّمت الجبر مفهوم “مدمن الأزمات”، مشيرة إلى أنه الشخص الذي يعتاد التوتر والصراع حتى يصبح أسيرهما، فلا يجد نفسه إلا داخل دائرة الأزمة.
ودعت إلى مقاربة مختلفة للتعافي النفسي تقوم على: النظر إلى المشكلة من الخارج، استخدام تقنيات العلاج النفسي لفهم الذات وتجاوز الصدمات، تنمية القوة الداخلية بثقة ووعي.
وترى الجبر أن البيئة الأسرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية هي الحاضن الأعمق لتكوين السلوك، وأن غياب القانون لا يعني فقط غياب الضبط، بل يكشف عن جوهر الإنسان.
وختمت بدعوة إلى إعادة بناء البيئة النفسية والاجتماعية من خلال التثقيف، والدعم المجتمعي، وخلق مساحات آمنة للتعبير والتفريغ.
الإعلام بين الإثارة والمسؤولية
أما الباحثة نرجس عبيد، فتناولت الدور الحاسم للإعلام في الأزمات، مؤكدة أن الإعلام اليوم لم يعد ناقلاً للحدث فحسب، بل أصبح فاعلاً ومؤثراً في مسار الأحداث وصياغة ردود الفعل الجماعية.
وقالت: “الإعلام قد يتحوّل إلى أداة تأجيج حين يُستخدم بانحياز أو بإثارة، ما يضخّم الأزمات ويعمّق الانقسام، وفي زمن الأزمات، يحتاج الإعلام إلى مسؤولية مضاعفة لا إلى سباق في الإثارة”.
وأوضحت عبيد أن الوعي الإعلامي هو خط الدفاع الأول في مواجهة الأزمات النفسية والاجتماعية، مشددة على ضرورة تبنّي نموذج “الإعلام الإنساني”، الذي يضع الإنسان في مركز الحدث، ويسعى إلى التحليل والتهدئة بدلاً من التهييج والتضليل.
تفاعل ونقاش
الندوة شهدت تفاعلاً لافتاً من الحضور، الذين طرحوا تساؤلات حول آليات بناء بيئة داعمة، ودور المؤسسات الثقافية في تعزيز الوعي النفسي والاجتماعي، إضافة إلى أهمية الإعلام المسؤول في إدارة الأزمات.
كما شارك بعض الحضور تجاربهم الشخصية مع التحديات النفسية والاجتماعية، ما أضفى على اللقاء طابعاً إنسانياً صادقاً، وحوّله إلى مساحة حوار وتفريغ وتضامن.
بين البيئة والإعلام… طريق نحو التعافي
ندوة “الخروج من الأزمات وتذليل العقبات” لم تكن مجرد لقاء ثقافي، بل دعوة صريحة لإعادة النظر في أدواتنا النفسية والاجتماعية، وفي الدور الذي يلعبه كل من الإعلام والبيئة في تشكيل وعينا وسلوكنا.
وبين تحليل منال الجبر العميق لسلوك الإنسان في ظل بيئته، ونقد نرجس عبيد لدور الإعلام في توجيه الرأي العام، خرج الحضور بحقيبة فكرية غنية، وأملٍ أن يكون الوعي هو أول الطريق نحو التعافي، لا مجرد ردّ فعل على الأزمة.